شهدت الساحة الأميركية قراراً لافتاً، حيث صوّت مجلس النواب على إلغاء تفويضي الحرب ضد العراق الصادرين عامي 1991 و2002. هذا القرار لا يمكن اعتباره مجرد إجراء روتيني، بل يمثل تحوّلاً نوعياً في علاقة الولايات المتحدة بالعراق، ويضع حداً لمرحلة استُخدم فيها العراق كساحة مفتوحة للتدخلات العسكرية المباشرة.
نهاية التفويضات العسكرية
التفويض الأول كان قد صدر عام 1991 إبّان حرب الخليج، فيما جاء الثاني عام 2002 تمهيداً لغزو العراق وسقوط نظامه السياسي. وعلى مدى أكثر من عقدين، شكّلت هذه التفويضات مظلة قانونية للرؤساء الأميركيين تمنحهم صلاحية شنّ عمليات عسكرية في العراق دون الحاجة للعودة إلى الكونغرس.
إلغاء هذه الصلاحيات اليوم يعني عملياً إنهاء أحد أبرز الأبواب التشريعية التي كانت تُستخدم لتبرير التدخل العسكري الأميركي في العراق، وهو ما يعزز مبدأ السيادة الوطنية ويضع العلاقة بين بغداد وواشنطن على أسس مختلفة تماماً عن مرحلة الاحتلال.
البعد القانوني للقرار
من الناحية القانونية، لم يعد لأي رئيس أميركي الحق في استخدام القوة العسكرية ضد العراق من طرف واحد، بل يتوجب العودة إلى الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، والحصول على موافقتهما معاً. هذه النقطة تمثل ضمانة مهمة للعراق، كونها تنهي حقبة كان فيها القرار العسكري الأميركي فوق أي مساءلة أو مراجعة داخلية.
كما أن إلغاء التفويض يضع العلاقة بين البلدين في إطار أوضح، إذ لم يعد العراق يُعرّف في التشريعات الأميركية كساحة حرب مفتوحة، بل كدولة ذات سيادة لا تُتخذ ضدها قرارات عسكرية إلا في إطار الشرعية الدولية أو القوانين الدستورية الأميركية الصارمة.
الأبعاد السياسية
سياسياً، القرار يفتح الباب أمام إعادة تعريف موقع العراق في السياسات الأميركية. فبعد أن كان البلد نموذجاً لتدخل عسكري مباشر، أصبح اليوم محوراً لعلاقات يُفترض أن تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. هذه النقلة تُسجَّل لصالح العراق أكثر مما تُحسب لغيره، إذ بات التعامل معه يتم عبر قنوات دبلوماسية وشراكات، لا عبر آليات الحرب.
كما أن القرار يُعتبر اعترافاً متأخراً بأن مرحلة التدخل العسكري المباشر قد انتهت، وأن العراق لم يعد ملفاً عسكرياً بقدر ما هو ملف سياسي ودبلوماسي واقتصادي.
تأثيرات على المشهد الداخلي العراقي
داخلياً، يمكن لهذا القرار أن يعزز من قوة الموقف الوطني المطالب باستقلالية القرار العراقي وإبعاد البلاد عن صراعات القوى الكبرى. فإلغاء التفويض الأميركي يعطي دفعة إضافية للقوى السياسية والشعبية التي طالما نادت بإنهاء التدخلات الخارجية.
وفي الوقت نفسه، يشكّل القرار اختباراً للنخبة السياسية العراقية، إذ يضعها أمام مسؤولية استثمار هذه اللحظة لتعزيز مؤسسات الدولة، وبناء قدراتها الذاتية بعيداً عن الاعتماد على المظلات الخارجية.
البعد الرمزي والمعنوي
لا يقل البعد الرمزي أهمية عن الجوانب القانونية والسياسية. فإلغاء التفويضات يُبدد مخاوف كانت قائمة لسنوات طويلة من إمكانية عودة التدخل العسكري الأميركي في أي لحظة، ويؤكد أن تلك المرحلة أصبحت من الماضي. وهذا يبعث برسالة واضحة، مفادها أن العراق اليوم يتعامل مع الولايات المتحدة كشريك في إطار دبلوماسي، وليس كأرض معركة.
المسار التاريخي للقرار
جدير بالذكر أن محاولات إلغاء التفويضات لم تكن وليدة اللحظة. ففي عام 2021 صوّت مجلس النواب على إلغاء تفويض 2002، لكنه اصطدم بمجلس الشيوخ. ثم عاد النقاش عام 2023 حيث صوّت مجلس الشيوخ على إلغاء تفويضي 1991 و2002 معاً، لكن مجلس النواب لم يمرره حينها. القرار الأخير أنهى هذا المسار الطويل وأغلق الملف بشكل نهائي.
نحو علاقة مختلفة
لا يعني إلغاء التفويض أن العراق في منأى عن التحديات الأمنية أو عن محاولات التدخل الخارجي، لكنه يعني أن الأداة القانونية التي استخدمت لعقود لتبرير تلك التدخلات قد زالت. وهذا يمنح العراق مجالاً أوسع للمطالبة بعلاقات قائمة على مبدأ السيادة الكاملة.
القرار أيضاً ينسجم مع الاتفاقية الإطارية الموقعة بين بغداد وواشنطن عام 2008، التي حدّدت أسس التعاون بين البلدين في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، بعيداً عن منطق الاحتلال أو التفويض المطلق.