في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، دوّى صدى قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة بإعلان مدوٍ: أغلبية ساحقة من دول العالم أقرت "إعلان نيويورك" الداعم لحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. لم يكن الأمر مجرد تصويت إجرائي، بل محطة دولية كاشفة لإرادة الشعوب والمجتمع الدولي في كسر جمود استمر لعقود، ورفض واضح لمحاولات فرض الأمر الواقع بالقوة. وبينما وقفت 142 دولة لتؤكد أن فلسطين لها الحق في الحياة والسيادة، لم يتجاوز عدد الرافضين أصابع اليدين، لتتكشف عزلة إسرائيل وحليفتها واشنطن على المسرح الأممي.
لحظة الحسم الأممية
في جلسة تاريخية الجمعة 12 سبتمبر 2025، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلانًا من سبع صفحات، عُرف بـ"إعلان نيويورك"، نصّ بوضوح على دعم إقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية. جاء القرار تتويجًا لمؤتمر دولي قادته السعودية وفرنسا في يوليو الماضي، وسط تصاعد الحرب في غزة وتفاقم الكارثة الإنسانية، ما دفع المجتمع الدولي للتحرك لإيجاد مخرج سياسي.
موازين التصويت:
الكتلة المؤيدة (142 دولة):
شكّل هذا المعسكر الغالبية الكاسحة، وجاءت الأصوات من مختلف القارات في مشهد يعكس وحدة غير مسبوقة حول القضية الفلسطينية.
العالم العربي والإسلامي: جميع الدول العربية تقريبًا أجمعت على دعم القرار، بما فيها السعودية، مصر، قطر، الإمارات، العراق، الأردن، سوريا، لبنان، والجزائر، إضافة إلى دول إسلامية بارزة مثل تركيا، إيران، باكستان، وماليزيا، ما عزز ثقل القرار وأضفى عليه بعدًا شرعيًا إسلاميًا ودينيًا وسياسيًا.
القارة الأفريقية: إفريقيا وقفت بأغلبها إلى جانب فلسطين، من جنوب إفريقيا ونيجيريا وغانا إلى زيمبابوي وتنزانيا، مؤكدة استمرار تقليد القارة في دعم حركات التحرر.
أوروبا: المفاجأة الكبرى جاءت من القارة العجوز، حيث انضمت دول أوروبية ثقيلة مثل فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، وإيطاليا إلى المعسكر المؤيد، بعد سنوات من التردد أو الانحياز لإسرائيل. هذا التطور اعتُبر نقطة تحول سياسية كبرى.
آسيا وأمريكا اللاتينية: اليابان، الصين، الهند، وأغلب دول آسيا دعمت القرار، وكذلك معظم دول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل، تشيلي، كوبا، والأرجنتين السابقة حليفة إسرائيل انقلبت إلى رافضة، مما يعكس تحولًا سياسيًا متباينًا.
هذا التكتل الدولي الواسع عكس إرادة جماعية لإنهاء استثناء فلسطين من المعايير الدولية، وفتح الباب أمام اعترافات جماعية بالدولة الفلسطينية.
الكتلة المعارضة (10 دول فقط):
على رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، ومعهما مجموعة محدودة من الدول الصغيرة والهامشية مثل ميكرونيسيا، ناورو، بالاو، بابوا غينيا الجديدة، وتونغا، إضافة إلى الأرجنتين والمجر.
إسرائيل: بررت رفضها بأن "حل الدولتين غير واقعي"، لكن موقفها جاء معزولًا ومكشوفًا.
الولايات المتحدة: تمسكت بطرح "المفاوضات المباشرة"، لكن تصويتها ضد الإعلان وضعها في مواجهة مباشرة مع أكثر من ثلثي المجتمع الدولي.
الأرجنتين والمجر: مواقف مرتبطة إما بحسابات سياسية داخلية أو بتحالفات مع واشنطن وتل أبيب.
هذه القائمة الضيقة أبرزت كيف أن التحالف الأميركي ـ الإسرائيلي بات في مواجهة عزلة دولية واضحة.
الكتلة الممتنعة (12 دولة):
من بينها التشيك، الكاميرون، الكونغو الديمقراطية، الإكوادور، ألبانيا، إثيوبيا، غواتيمالا، مقدونيا الشمالية، مولدوفا، جنوب السودان، فيجي، وساموا.
هذه الامتناعات تعكس مواقف مرتبكة أو حسابات داخلية ودبلوماسية، حيث لم ترغب هذه الدول في تحدي واشنطن بشكل مباشر، لكنها في الوقت نفسه لم تنضم إلى المعسكر الرافض.
الملفت أن بعض هذه الدول، خاصة في أوروبا الشرقية (مثل التشيك وألبانيا)، غالبًا ما تميل لمواقف الولايات المتحدة، ما يجعل امتناعها خطوة تُحسب كإشارات حياد أو تحفظ لا رفض قاطع.
بهذا التوزيع، بدا واضحًا أن:
المعسكر المؤيد لحل الدولتين أصبح الغالبية العالمية.
المعارضون انكمشوا إلى تحالف محدود ومعزول.
الممتنعون تركوا الباب مفتوحًا للالتحاق بالتيار الدولي إذا تصاعد الضغط.
تقدم سعودي ـ فرنسي لقيادة الملف الفلسطيني
لم يكن التصويت الأممي مجرّد خطوة بروتوكولية، بل انعكاسًا لتحركات دبلوماسية قادتها الرياض وباريس منذ يونيو الماضي. فقد بادرت العاصمتان إلى إطلاق مؤتمر دولي في الأمم المتحدة، تحول لاحقًا إلى إعلان سياسي صاغته أكثر من 70 دولة قبل أن يُعرض للتصويت. السعودية وفرنسا شددتا على أنهما لن تكتفيا بمظلة الإعلان، بل ستقودان قمة جديدة يوم 22 سبتمبر الجاري داخل أروقة الأمم المتحدة، بهدف دفع مزيد من الدول الغربية للاعتراف الرسمي بالدولة الفلسطينية، وترجمة هذا التوافق إلى خطوات عملية على الأرض.
أوروبا تكسر التردد وتقترب من فلسطين
من أبرز ملامح التصويت الأخير التحول الكبير في الموقف الأوروبي. أكثر من 12 دولة، بينها بريطانيا وألمانيا وبلجيكا والبرتغال وفنلندا، أعلنت استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين خلال الأسابيع المقبلة. هذا الموقف يمثل قطيعة مع النهج الأوروبي التقليدي الذي اتسم بالتردد والخشية من إغضاب إسرائيل أو الولايات المتحدة. فرنسا سبقت الجميع بإعلان صريح من الرئيس إيمانويل ماكرون، أكد فيه أن باريس ستعترف بفلسطين خلال اجتماعات الدورة الحالية للجمعية العامة. هذا التحول يعكس إدراكًا أوروبيًا بأن استمرار الصراع دون حل يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمي والأمن الدولي.
عزلة إسرائيل بين واشنطن وبضعة حلفاء
في المقابل، جاءت معارضة إسرائيل والولايات المتحدة لتؤكد اتساع الفجوة بينهما وبين المجتمع الدولي. إسرائيل كررت خطابها التقليدي برفض الدولة الفلسطينية وادعاء "استحالة تطبيق حل الدولتين"، بينما بررت واشنطن موقفها بضرورة "المفاوضات المباشرة". لكن المفارقة أن هذه المواقف لم تجد صدى سوى لدى عشر دول صغيرة ومتواضعة النفوذ الدولي، مثل ناورو وميكرونيسيا وبالاو. هذا الاصطفاف الضيق كشف عزلة غير مسبوقة لإسرائيل وحليفتها الكبرى، خاصة في ظل تقارير أممية متواصلة عن "تجويع غزة" والانتهاكات ضد المدنيين.
تصويت يتجاوز الرمزية ويضع إسرائيل تحت الضغط
رغم أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ليست ملزمة قانونيًا على غرار قرارات مجلس الأمن، إلا أن هذا التصويت اكتسب ثقلًا استثنائيًا. الأغلبية الساحقة ـ 142 دولة ـ منحت الفلسطينيين ورقة قوة سياسية ومعنوية يمكن استثمارها في أي مفاوضات مستقبلية. كما أن الإعلان الأممي يضع إسرائيل تحت ضغط دولي متزايد، ويخلق مناخًا داعمًا للاعتراف الجماعي بدولة فلسطين. بمعنى آخر، لم يعد الحديث عن حل الدولتين مجرد شعار، بل تحول إلى موقف عالمي مدعوم بشرعية أممية، وهو ما يجعل تجاهله من قبل إسرائيل مكلفًا على المستويين السياسي والدبلوماسي.
المشهد ما بعد التصويت
القرار الأممي لم يكن حدثًا عابرًا، بل جاء في توقيت بالغ الدقة، قبل أيام من القمة السعودية ـ الفرنسية المرتقبة في نيويورك، حيث يتوقع أن تتحول الكلمات إلى خطوات عملية على طريق الاعتراف الجماعي بالدولة الفلسطينية. باريس أعلنت بوضوح نيتها الاعتراف بفلسطين خلال هذه الدورة، فيما تتحرك عواصم أخرى مثل كندا والبرتغال وفنلندا على خطى مشابهة، ما يشير إلى زخم متصاعد يضغط على الحكومات الغربية التقليدية.
في المقابل، جاء الرد الإسرائيلي متشنجًا، برفض قاطع واتهامات للجمعية العامة بأنها "تفتقر للشرعية". أما واشنطن، فاختارت خطابًا تقليديًا يؤكد أن "الحل لا يأتي إلا عبر التفاوض المباشر"، وهو موقف بات معزولًا أمام المشهد الدولي الجديد، حيث انحازت الأغلبية الساحقة من الدول إلى تأييد حل الدولتين.
هذا التصويت الكاسح كشف أن القضية الفلسطينية لم تعد ملفًا مؤجلاً على هامش الأزمات الدولية، بل تحولت إلى محور اختبار أخلاقي وسياسي للنظام العالمي. إعلان نيويورك لم يكن مجرد وثيقة، بل بمثابة صرخة أممية في وجه الاحتلال ورسالة واضحة بأن زمن الاستفراد الإسرائيلي قد انتهى.
وبينما تستعد الرياض وباريس لقيادة قمة جديدة تحت مظلة الأمم المتحدة، تبدو ملامح تحول استراتيجي في الأفق: الشرق الأوسط يدخل مرحلة إعادة صياغة قواعد اللعبة، وفلسطين تقف اليوم على أعتاب اعتراف دولي شامل، طالما اعتُبر حلمًا بعيد المنال.
من قرار التقسيم إلى إعلان نيويورك 2025
قرار التقسيم 1947 (القرار 181):
بدأت فكرة حل الدولتين في الأمم المتحدة بشكل رسمي يوم 29 نوفمبر 1947 حين تبنت الجمعية العامة القرار 181، المعروف بـ"قرار التقسيم". نص القرار على إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وتقسيم الأرض إلى دولتين: عربية ويهودية، مع تدويل القدس تحت إدارة دولية.
اليهود قبلوا القرار باعتباره اعترافًا دوليًا بإقامة دولة إسرائيل.
العرب والفلسطينيون رفضوه لأنه منح الحركة الصهيونية أكثر من 55% من أرض فلسطين التاريخية، رغم أن الفلسطينيين كانوا يشكلون الغالبية السكانية.
هذا الرفض العربي أعقبه اندلاع حرب 1948 التي انتهت بقيام دولة إسرائيل وتهجير مئات آلاف الفلسطينيين (النكبة)، فيما لم ترَ الدولة الفلسطينية النور.
مرحلة ما بعد 1948:
في قرار 194 (ديسمبر 1948)، أقرت الجمعية العامة حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة والتعويض.
لكن إسرائيل رفضت التنفيذ، فيما ظل الملف الفلسطيني حبيس الجدل الدولي دون حل جذري.
حرب 1967 وقرار 242:
بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وسيناء والجولان في حرب يونيو 1967، تبنى مجلس الأمن القرار 242 الذي دعا إلى:
انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها.
الاعتراف بحق جميع دول المنطقة في العيش بسلام داخل حدود آمنة.
القرار فتح الباب لأول مرة لمعادلة "الأرض مقابل السلام"، والتي أصبحت أساسًا لفكرة إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
من كامب ديفيد إلى أوسلو
كامب ديفيد (1978): ركز على السلام المصري ـ الإسرائيلي ولم ينجح في معالجة القضية الفلسطينية بشكل مباشر.
مؤتمر مدريد (1991): برعاية أميركية ـ سوفيتية، جمع لأول مرة إسرائيل والفلسطينيين على طاولة مفاوضات دولية.
اتفاق أوسلو (1993): اعتُبر الانعطافة الكبرى، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، مقابل اعتراف الأخيرة بالمنظمة كممثل شرعي للفلسطينيين، مع وعد بإقامة دولة فلسطينية لاحقًا. لكن الاتفاق فشل في إنهاء الاحتلال أو حسم قضايا الوضع النهائي مثل القدس واللاجئين.
محطات أممية لاحقة
2002: أطلقت الأمم المتحدة و"اللجنة الرباعية الدولية" (الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، روسيا) "خريطة الطريق" نحو حل الدولتين.
2012: اعترفت الجمعية العامة بفلسطين كـ"دولة مراقب غير عضو" بأغلبية 138 صوتًا، ما عزز مكانتها القانونية على الساحة الدولية.
2014 ـ 2020: شهدت انسدادًا سياسيًا بسبب رفض حكومة نتنياهو المتكرر لحل الدولتين، بدعم مباشر من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي طرحت "صفقة القرن" لتصفية القضية.
عودة الملف بقوة (2023 ـ 2025):
حرب غزة 2023 ـ 2025 وما تبعها من مأساة إنسانية غير مسبوقة، أعادت حل الدولتين إلى صدارة الاهتمام الدولي.
السعودية وفرنسا قادتا حراكًا دبلوماسيًا داخل الأمم المتحدة لإحياء المبادرة، عبر مؤتمر دولي عُقد في يوليو 2025.
culminated بإعلان نيويورك (سبتمبر 2025) الذي صوتت له 142 دولة، ليصبح أقوى إجماع أممي منذ قرار التقسيم عام 1947.
منذ 1947 وحتى 2025، ظلت الأمم المتحدة تطرح حل الدولتين كإطار لتسوية الصراع. لكن العقبات كانت دائمًا في التنفيذ بسبب الرفض الإسرائيلي والدعم الأميركي غير المشروط. التصويت الأخير لإعلان نيويورك مثّل عودة قوية للجذور، حيث استعاد المجتمع الدولي روح قرار التقسيم 181، لكن هذه المرة بزخم سياسي أكبر وضغط عالمي يضع إسرائيل في مواجهة عزلة غير مسبوقة.