نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً موسعاً حول التحولات السياسية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، ركزت فيه على الخطوات التي أعلنتها الحكومة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع لإصلاح المنظومة الأمنية والسجون، باعتبارها أبرز أدوات القمع في العقود الماضية. إلا أن الصحيفة شددت على أن هذه الوعود ترافقها مؤشرات مقلقة من استمرار ممارسات قديمة، ما يثير التساؤلات حول مستقبل العملية الانتقالية واحتمال انزلاقها نحو إعادة إنتاج الاستبداد.
إصلاحات على الورق
بحسب نيويورك تايمز، أعلنت وزارة الداخلية في أيار/مايو عن خطط شاملة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وبناء سجون جديدة أو تجديد القائم منها بما يتوافق مع "المعايير الإنسانية". الناطق باسم الوزارة نور الدين البابا أكد حينها أن "عصر طغيان الأمن قد انتهى".
الصحيفة أوضحت أن هذه الخطوات لقيت ترحيباً حذراً من منظمات حقوقية، لكنها اعتبرت أن من المبكر الحكم على فعاليتها، نظراً لأن مؤسسات الدولة الجديدة ما تزال في طور التشكل ولم تختبر بعد قدرتها على ضبط الانتهاكات.
مركزية الحكم.. هاجس متجدد
في المقابل، تلفت نيويورك تايمز إلى أن الرئيس الشرع أحكم قبضته على السلطات، محيطاً نفسه بدائرة ضيقة من الموالين، بينهم شقيقاه. الوزارات السيادية مثل الدفاع والداخلية والخارجية أسندت إلى شخصيات من صلب حركته السابقة "هيئة تحرير الشام"، وهو ما أثار قلقاً من إعادة إنتاج نموذج رئاسي شمولي مشابه لحقبة الأسد.
وتنقل الصحيفة عن منى يعقوبيان، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، قولها: "النظام لا يزال بنيوياً نظاماً رئاسياً قوياً يقاوم اللامركزية". فيما حذرت لارا نيلسون من مؤسسة "إيتانا سوريا" من "بوادر مقلقة للاستمرار على النهج ذاته".
انتخابات تحت المجهر
تشير الصحيفة إلى أن الانتخابات البرلمانية التي كان يُفترض أن تعزز المشاركة الديمقراطية، أظهرت مشهداً مثيراً للجدل. فمن أصل 210 مقاعد، ثلثها عيّنه الرئيس مباشرة، فيما اختير الباقون عبر لجان حكومية محلية. كما جرى إلغاء التصويت في ثلاث محافظات خارج سيطرة الحكومة وتعيين ممثلين عنها بقرار رسمي، الأمر الذي شبّهه مراقبون بسياسات الإقصاء السابقة.
الإدارة الذاتية الكردية اعتبرت هذه الانتخابات "إعادة إنتاج لنهج استبعادي قديم"، مؤكدة أنها لا تعكس إرادة السوريين.
انقسامات طائفية تعمّق الأزمة
بحسب نيويورك تايمز، فإن الانقسامات الطائفية تمثل التحدي الأكبر للحكومة الجديدة. خلال الأشهر الستة الماضية، اندلعت ثلاث موجات من العنف الطائفي الدموي، اتُهمت قوات حكومية بالتورط في بعضها. في محافظة السويداء وحدها، قتل مئات خلال تموز/يوليو إثر مواجهات بين عشائر بدوية ومجموعات درزية.
الحكومة نفت مسؤوليتها المباشرة وأعلنت فتح تحقيقات، إلا أن منظمات حقوقية حمّلت قواتها أو حلفاءها مسؤولية تنفيذ عمليات إعدام ميدانية بدوافع انتقامية أو طائفية.
موقف المجتمع الدولي
ينقل التقرير عن المبعوث الأممي غير بيدرسن تحذيره أمام مجلس الأمن من أن "العملية الانتقالية تسير على حد السكين"، داعياً إلى إصلاحات حقيقية ومؤسسات قوية تضمن الشفافية والمشاركة، محذراً من أن سوريا قد تفقد فرصة الحصول على الدعم الدولي اللازم في حال استمر التباطؤ.
حكومة جامعة أم واجهة رمزية؟
الصحيفة أشارت إلى أن حكومة الشرع ضمت وزراء من الشتات وأقليات ووزيرة واحدة، في محاولة لإظهار التنوع. لكن النفوذ الفعلي بقي محصوراً بالمقربين من الرئيس.
وزير الداخلية أنس خطاب، وهو قيادي سابق في هيئة تحرير الشام، يقود اليوم عملية إعادة هيكلة قوات الأمن. وبعد طرد معظم ضباط الشرطة السابقين، جرى تجنيد آلاف العناصر الجدد وتدريبهم بشكل سريع، ما يثير تساؤلات حول قدرتهم على تغيير الثقافة الأمنية المتجذرة.
أما وزير الخارجية أسعد الشيباني، فيلعب دوراً يتجاوز مهامه التقليدية ليقترب من موقع رئيس الوزراء الفعلي، حيث ترفع معظم الوزارات تقاريرها إليه، بحسب ما نقلت نيويورك تايمز عن مسؤولين أجانب.
آفاق ضبابية
تخلص الصحيفة إلى أن سوريا تقف أمام مفترق حاسم. فهناك إشارات على رغبة في القطع مع إرث الاستبداد، مثل فتح مكاتب لتلقي شكاوى المواطنين وإدماج بعض النساء والأقليات في المشهد السياسي. لكن تركيز السلطة، غياب الشفافية في الانتخابات، وتصاعد العنف الطائفي، كلها مؤشرات تنذر بإمكانية العودة إلى أنماط الحكم القديمة.
الامتحان الحقيقي، وفق ما نقلت نيويورك تايمز عن محللين، سيكون في التطبيق العملي للإصلاحات، وفي قدرة الحكومة على فرض المحاسبة وضبط الأجهزة الأمنية وبناء ثقة مع مختلف مكونات المجتمع. وحتى يتحقق ذلك، ستظل المخاوف قائمة من أن تتحول "الجمهورية الجديدة" إلى نسخة معدلة من الاستبداد الذي ثار السوريون لإسقاطه.