في خطوة وُصفت بأنها بارقة أمل وسط تصعيد غير مسبوق في الملف النووي الإيراني، أعلنت طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية عن التوصل إلى تفاهم جديد لاستئناف التعاون، وذلك عقب اجتماع ثلاثي استضافته القاهرة وشارك فيه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ونظيره المصري بدر عبد العاطي والمدير العام للوكالة رفائيل غروسي. الاتفاق حمل دلالات سياسية تتجاوز الطابع الفني، إذ أعاد مصر إلى موقع الوسيط الإقليمي، وفتح نافذة جديدة أمام الدبلوماسية النووية في لحظة حرجة بعد الهجمات الأميركية والإسرائيلية على منشآت إيرانية في يونيو الماضي.
التفاهم الجديد.. ماذا يتضمن؟
الاتفاق الذي أُعلن في القاهرة يقضي بعودة عمليات التفتيش الدولية إلى بعض المواقع النووية الإيرانية التي كانت مغلقة منذ أشهر، مع وضع آليات تقنية لحماية المعلومات الحساسة التي تعتبرها طهران جزءاً من أمنها القومي. كما نص على أن التعاون سيتم وفق القوانين التي أقرها البرلمان الإيراني، مع التأكيد على أن أي إجراء عدائي خارجي أو إعادة تفعيل للعقوبات الأممية سيكون كفيلاً بإنهاء التفاهم عملياً.
مصر على خط الوساطة
اختيار القاهرة لعقد الاجتماع لم يكن تفصيلاً عابراً. فمصر تمتلك رصيداً من الحياد النسبي وعلاقات متوازنة مع مختلف الأطراف، وهو ما مكّنها من لعب دور الوسيط في لحظة توتر قصوى. الحضور الفاعل لوزير الخارجية المصري أعطى الاتفاق بعداً إقليمياً ورسالة بأن القاهرة قادرة على توفير منصات تفاوضية تُجنب المنطقة منزلقات التصعيد.
من الضربات إلى الانفراج الحذر
جاء التفاهم بعد أشهر من الجمود أعقبت الهجمات الأميركية والإسرائيلية على مواقع نووية إيرانية في يونيو، والتي دفعت طهران إلى تعليق تعاونها مع الوكالة واشتراط إطار جديد يراعي سيادتها. الهجمات اعتُبرت في إيران "عدواناً سافراً"، وأعادت الملف النووي إلى واجهة الصراع الإقليمي والدولي. الاتفاق الجديد يحاول معالجة تداعيات تلك المرحلة عبر إعادة بناء الثقة، ولو بشكل جزئي.
الموقف الإيراني.. شروط صارمة ورسائل حازمة
إيران شددت على أن التفاهم لا يعني تنازلاً عن حقوقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، بل هو إطار يضمن تعاوناً مشروطاً. وزير الخارجية عباس عراقجي أكد أن بلاده ستعتبر أي محاولة لإعادة فرض العقوبات أو تفعيل قرارات مجلس الأمن الملغاة بمثابة إنهاء فوري للتفاهم. هذا الموقف يعكس تصميم طهران على الموازنة بين الانفتاح الفني والصلابة السياسية.
من الناحية العملية، يُتوقع أن يعود مفتشو الوكالة الذرية إلى مواقع محددة، مع إعادة تشغيل أجهزة المراقبة وإعداد تقارير دورية عن المخزون ومستوى التخصيب. مراقبون أشاروا إلى أن الاتفاق يمنح المجتمع الدولي نافذة للاطلاع على برنامج إيران النووي، لكنه لا يضع قيوداً إضافية على مستويات التخصيب التي وصلت إلى نسب مرتفعة خلال الأشهر الأخيرة.
بينما رحبت الوكالة الذرية بالاتفاق واعتبره مديرها "خطوة تبعث على الأمل"، أبدت الدول الأوروبية موقفاً حذراً، مؤكدة أنها ستراقب التنفيذ قبل التراجع عن خطوات إعادة تفعيل العقوبات. أما الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد تعاملتا مع التفاهم باعتباره إجراءً فنياً محدود الأثر، ريثما يتضح مدى التزام طهران بالتنفيذ العملي.
سيناريوهات المستقبل
السيناريو الأول يتمثل في تنفيذ كامل لبنود الاتفاق، بما يتيح للوكالة استئناف دورها ويخفف الضغوط الدولية على طهران. أما السيناريو الثاني، فيقوم على تعاون محدود أو جزئي يُبقي التوتر قائماً ويفتح الباب أمام عقوبات جديدة. فيما يظل السيناريو الثالث – أي انهيار التفاهم بفعل تصعيد عسكري أو إعادة عقوبات – قائماً، ما قد يعيد الملف إلى مربع المواجهة.
اتفاق القاهرة يعكس لحظة توازن دقيقة: طهران تستعيد قنوات التعاون مع الوكالة الذرية دون أن تتنازل عن ثوابتها، والوكالة تحصل على فرصة للرقابة بعد انقطاع، فيما تبرز مصر كوسيط إقليمي مؤثر. وبين التفاؤل الحذر والتحذيرات الصارمة، يبقى نجاح التفاهم مرهوناً بقدرة الأطراف على الالتزام وضبط إيقاع التصعيد.