في عام 1916، وقع الدبلوماسيان البريطاني سايكس والفرنسي بيكو اتفاقية سرية لتوزيع النفوذ في الشرق الأوسط، نتج عنها تقسيم الأراضي إلى مناطق خاضعة للاستعمار لم يكن الأمر مجرد ترسيم للحدود، وإنما محاولة لعزل المجتمعات عن بعضها وزرع كيانات ضعيفة يسهل التحكم فيها، آثار تلك المرحلة ما زالت حاضرة في الأزمات الراهنة.
اليوم، استحضر الرئيس التونسي قيس سعيد هذه التجربة عند حديثه عن "سايكس بيكو جديدة"، مشيراً إلى أن الواقع الإقليمي يشهد محاولات متكررة لإعادة تشكيل الخريطة عبر التدخلات الأجنبية وصراعات القوى.
فلسطين كمحور أساسي:
القضية الفلسطينية تقف في قلب هذا النقاش سعيد اعتبر أن المشروع الصهيوني يتجاوز مسألة الاحتلال إلى تفكيك الدول العربية نفسها، استهداف المدنيين عبر القصف والحصار والتجويع يُقرأ كخطوات متعمدة لفرض واقع سياسي جديد.
في خطابه، شدد على أن فلسطين ليست أرضاً قابلة للتصرف أو المساومة، وإنما حق تاريخي يتمسك به أصحابها مهما كانت التضحيات هذا الموقف يرسخ مكانة فلسطين كبوصلة للمنطقة وليست قضية محلية فحسب.
الشرعية الدولية بين التآكل والتجاوز:
انتقاد سعيد للشرعية الدولية يعكس شعوراً عاماً بالعجز تجاه الأزمات مؤسسات الأمم المتحدة لم تتمكن من وقف العدوان أو حماية المدنيين في غزة والضفة، ما جعل قراراتها شكلية إلى حد كبير.
في المقابل، يتحدث عن شرعية جديدة تتشكل من خلال الشعوب المظاهرات التي شهدتها مدن غربية وعربية، والحملات الحقوقية المتنامية، تُظهر اتجاهاً متصاعداً نحو اعتبار الرأي العام العالمي سلطة ضاغطة بديلة.
مشاريع التقسيم في الحاضر:
ما يُعرف بـ"سايكس بيكو الأولى" كان اتفاقاً مكتوباً، أما المشهد الحالي فيأخذ أشكالاً أكثر تعقيدًا: تدخلات عسكرية، تفاهمات إقليمية، وصراعات اقتصادية سوريا والعراق واليمن أمثلة على دول تعاني من محاولات تقسيم داخلية، في وقت يزداد فيه النفوذ الخارجي على حساب السيادة الوطنية.
رغم ذلك، الشعوب العربية أكثر وعياً من ذي قبل خبرتها مع مشاريع التفتيت جعلتها تتمسك بالوحدة والهوية الجامعة، ويظهر ذلك في تمسك الفلسطينيين بحق العودة ورفض التوطين.
الرهان على الشعوب:
المخاض الشعبي الذي تحدث عنه سعيد يشير إلى أن الزمن قد يفتح نافذة لتغيير الموازين التفوق العسكري بيد الاحتلال، لكن قوة الشارع العالمي تمنحه موقعًا دفاعيًا على المستوى الأخلاقي الصور القادمة من غزة، والمظاهرات الداعمة، تثبت أن القضية لا تزال حاضرة بقوة رغم محاولات طمسها.
نحو شرعية إنسانية جديدة:
التحولات الحالية قد تؤسس لتوازن مختلف. إذا كانت سايكس بيكو القديمة رسمت حدودًا على الورق، فإن النسخة المعاصرة تسعى إلى إعادة هندسة المجتمعات عبر الانقسامات الداخلية.
في المقابل، تبرز فكرة الشرعية الإنسانية التي تستند إلى إرادة الشعوب وحركاتها الاحتجاجية.
يؤكد مراقبون أن الصراع ليس فقط على الأرض، بل على طبيعة المرجعيات التي تحدد مستقبل المنطقة. فلسطين تظل مركز هذا الامتحان، حيث يتواجه منطق القوة مع منطق الحرية، ويُعاد طرح السؤال حول أي شرعية ستسود في العقود المقبلة.