لا تهدأ المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية – قسد" شمال شرقي سوريا، حيث تتكرر حملات الاعتقال التي تستهدف الشباب، وتتعدد الروايات الرسمية والمحلية حول أسبابها. آخر هذه الحملات شهدتها مدينة القامشلي بمحافظة الحسكة، حين نفذت "قسد" مداهمات واسعة في أحياء طي وهلالية، انتهت باعتقال نحو 80 شاباً واقتيادهم مباشرة إلى معسكرات التجنيد الإجباري.
المصادر المحلية، ومنها شبكة "نهر ميديا"، أكدت أن المعتقلين جرى توقيفهم من أماكن عملهم أو خلال تحركاتهم اليومية، وأن الهدف المعلن هو رفد صفوف "قسد" بمقاتلين جدد في ظل تراجع الإقبال الطوعي على الانخراط في صفوفها.
الذريعة الأمنية.. داعش في الواجهة
قبل أيام فقط، أعلنت "قسد" عن إطلاق حملة أمنية في مدينة الحسكة ضد ما قالت إنها "خلايا نائمة" لتنظيم الدولة (داعش). لكن شهادات من السكان نقلها مراسلون وناشطون محليون، أوضحت أن الاعتقالات طالت عشرات الناشطين المدنيين والمعارضين لسياسات "قسد"، بل شملت حتى رجال دين مثل إمام مسجد التوحيد في حي غويران.
وبحسب هذه الروايات، فإن "قسد" باتت تستخدم ملف مكافحة داعش كذريعة لتصفية حسابات داخلية وضبط أي معارضة محتملة لسلطتها في المنطقة، في وقت يتصاعد فيه التوتر بين مكونات المجتمع المحلي نتيجة تراجع الخدمات، وتنامي الشعور بالتهميش.
الحسكة ودير الزور.. اعتقالات لا تتوقف
لم تقتصر الاعتقالات على القامشلي أو الحسكة، بل سبقتها حملات مشابهة في دير الزور، كان آخرها في بلدة غرانيج حيث اعتُقل 18 شخصاً، وتخللت العملية عمليات تخريب وحرق لمنازل بعض المعتقلين. هذه الأساليب أثارت غضب الأهالي الذين اعتبروا أن "قسد" باتت تمارس سياسة العقاب الجماعي بذريعة مكافحة الإرهاب.
الناشطون في شرقي سوريا يتحدثون منذ سنوات عن نمط متكرر: تبدأ "قسد" بحملة أمنية تعلن أنها ضد داعش، ثم تتحول إلى أداة لاعتقال المعارضين أو الشباب المطلوبين للتجنيد الإجباري. ومع غياب الشفافية، يصعب التحقق من التهم، فيما يبقى مصير كثير من المعتقلين مجهولاً لأشهر طويلة.
تجنيد إجباري.. أزمة تتجدد
قضية التجنيد الإجباري هي الأكثر حساسية في العلاقة بين "قسد" والسكان المحليين. فمنذ سنوات، تفرض القوات على الشبان الالتحاق بمعسكرات تدريب عسكرية تحت ما يسمى "واجب الدفاع الذاتي"، لكن كثيرين يعتبرونها سياسة قسرية تهدد استقرار المجتمع.
وتزداد المعارضة للتجنيد في ظل تردي الظروف المعيشية، إذ يرى الأهالي أن دفع الشباب نحو القتال يفاقم أزمة اقتصادية واجتماعية، ويترك العائلات بلا معيل. كما أن بعض المعتقلين ينتمون لعائلات فقدت أبناءها في جبهات القتال، ما يضاعف مشاعر الاحتقان.
قراءة في المشهد
تثير هذه الحملات جملة من التساؤلات حول مستقبل مناطق شمال شرقي سوريا. فمن جهة، تسعى "قسد" إلى تعزيز حضورها العسكري والسياسي في مواجهة أي تهديد محتمل من داعش أو من القوى الإقليمية المنافسة. ومن جهة أخرى، تبدو سياساتها الأمنية المتشددة عامل توتر داخلي يهدد بفقدانها الحاضنة الشعبية.
التجارب السابقة في المنطقة توضح أن الحكم القسري والاعتقالات العشوائية لا تؤدي إلا إلى تعزيز حالة الغضب والاحتقان، وربما تدفع بعض الفئات إلى البحث عن بدائل أخرى حتى لو كانت أكثر خطراً. كما أن توظيف ملف داعش كذريعة يضع "قسد" أمام مأزق فقدان المصداقية داخلياً وخارجياً، خصوصاً مع توثيق المنظمات الحقوقية المتكررة لحالات الاعتقال التعسفي والتجنيد الإجباري.
إلى أين؟
المشهد الراهن يوحي بأن الاعتقالات لن تتوقف قريباً، فـ"قسد" تواجه ضغوطاً متعددة: الحاجة إلى تعزيز قوتها العسكرية، والتخوف من الخلايا النائمة لداعش، والقلق من تحركات النظام السوري وحلفائه في المناطق المجاورة. لكن الاستمرار في سياسة القمع والتجنيد القسري قد يتحول إلى سيف ذي حدين، إذ يفقدها الشرعية الاجتماعية التي تحتاجها للبقاء لاعباً رئيسياً في مستقبل سوريا.