أي دستور لسوريا ما بعد الأسد؟

سامر الخطيب

2025.09.10 - 09:49
Facebook Share
طباعة

 بعد سقوط نظام بشار الأسد وتشكّل حكومة انتقالية جديدة، يجد السوريون أنفسهم أمام سؤال محوري: ما الشكل الأمثل للحكم الذي يضمن وحدة البلاد ويحافظ على تنوعها ويحقق تطلعات شعبها؟ الجدل لا ينفصل عن تجربة مريرة امتدت لسنوات، حيث تحولت السلطة المطلقة بيد المركز إلى أداة للقمع والتهميش، وفي المقابل برزت أصوات تدعو إلى اللامركزية أو حتى الفيدرالية كوسيلة لتصحيح الخلل.


ولعل ما قاله أرسطو في كتابه "السياسة" ما يزال صالحًا للتذكير: "كل الدساتير التي تقصد المنفعة العامة صالحة، وكل ما يقصد منفعة شخصية للحاكمين فاسد". هذه المقولة تختصر معضلة سوريا الجديدة: كيف نمنع إعادة إنتاج الاستبداد تحت أي لافتة، ونبني نظامًا سياسيًا يخدم المواطنين لا الفئات الضيقة؟


صراع الطروحات وتعدد المطالب
منذ الأيام الأولى للمرحلة الانتقالية، ظهرت مبادرات عدة لشكل الحكم:
قوات سوريا الديمقراطية (قسد): تدفع نحو نموذج لامركزي واسع مستوحى من إدارتها الذاتية في شمال شرق سوريا.
بعض الزعامات المحلية: مثل حكمت الهجري في السويداء، الذي طالب بحكم ذاتي، مستندًا إلى دعم خارجي.
مجالس سياسية ناشئة: طرحت فكرة الفيدرالية الكاملة في وسط وغرب سوريا.
الحكومة الجديدة المعترف بها دوليًا: تصر على سوريا موحدة بنظام مركزي، مع إمكانية تطوير قانون الإدارة المحلية رقم 107.


الرئيس السوري أحمد الشرع عبّر عن هذا التوجه بقوله: "إذا كانت اللامركزية تعني التقسيم فهذا غير مقبول. المهم أن نحدد هل الشعب موافق؟ هل الطبيعة الجغرافية تسمح؟ هذه أسئلة يجب أن تجيب عليها التجربة السورية".


بين المركزية واللامركزية: دروس وتجارب
الدكتور برهان غليون يرى أن "اللامركزية الديمقراطية" هي الحل الأمثل. فهي تمنح المحافظات سلطات إدارية وثقافية واجتماعية واسعة، مع بقاء السيادة القومية في مجالات الأمن والسياسة الخارجية والعدالة بيد المركز.


لكن غليون يحذر من أن تتحول اللامركزية إلى أداة محاصصة طائفية أو عرقية، مؤكّدًا أن نجاحها مرتبط بانتخابات نزيهة وشفافة تفرز ممثلين على أساس الكفاءة لا الهوية الضيقة.


من جهة أخرى، يشير الباحث عبد الرحمن الحاج إلى أن معظم الطروحات القائمة اليوم غير واقعية، إما لافتقارها إلى مقومات اقتصادية أو جغرافية أو لأنها مرتهنة لدعم خارجي. ويعتبر أن "القانون 107" يمكن أن يشكل أساسًا عمليًا لتطوير إدارة محلية موسعة، تلبي تطلعات السوريين وتخفف الضغط عن المركز من دون تهديد وحدة الدولة.


القانون 107.. فرصة ضائعة؟
قانون الإدارة المحلية رقم 107، الذي صدر عام 2011 ولم يُطبق بجدية بسبب تعنت النظام السابق، ينص على نقل صلاحيات واسعة إلى مجالس محلية منتخبة، مع استقلال إداري ومالي. الفكرة كانت أن تتحمل البلديات والمدن مسؤولية مباشرة عن الخدمات والتنمية، بينما يحتفظ المركز بسلطاته السيادية الكبرى.


هذا القانون – الذي تضمنه دستور 2012 – يمكن أن يشكل اليوم مرجعًا مهمًا لتطوير نظام لامركزي واقعي. فهو يحقق معادلة دقيقة: مشاركة محلية أوسع دون المساس بوحدة القرار الوطني.


مقارنة النماذج
المركزية الكاملة: تمنح وحدة القرار وسرعة الاستجابة، لكنها تؤدي إلى التهميش والبيروقراطية وضعف المشاركة.

اللامركزية الموسعة: تعزز المشاركة الشعبية والتنمية المحلية وتخفف الضغط عن المركز، لكنها تحمل خطر تضارب السياسات أو تغذية نزعات الانفصال إذا لم تُضبط دستوريًا.

الفيدرالية: تمنح الأقاليم سلطات شبه كاملة، مع دساتير وحكومات محلية، لكنها في حالة سوريا محفوفة بالمخاطر بسبب تنوعها العرقي والطائفي وصراع النفوذ الخارجي.


البعد الإقليمي والدولي
لا يمكن فصل هذا النقاش عن التدخلات الخارجية. إسرائيل وبعض القوى الإقليمية تفضّل تفكيك سوريا إلى كيانات صغيرة ضعيفة. بالمقابل، تركيا وروسيا وحتى الولايات المتحدة دعمت بدرجات مختلفة مشاريع محلية متباينة. هذا يجعل أي طرح غير محمي بإجماع وطني عُرضة للانهيار أو الاستغلال.


الطريق إلى الحل
سوريا المستقبل تحتاج إلى صيغة توازن بين المركزية واللامركزية. مركز قوي يحتفظ بملفات السيادة والدفاع والمالية، وفي الوقت نفسه مجالس محلية منتخبة تُدير شؤون الناس اليومية بمرونة وشفافية.


الاستفتاء الشعبي قد يكون الوسيلة الأمثل لحسم هذا الجدل، لكن التجارب مثل استفتاء كردستان العراق عام 2017 أظهرت أن الشرعية الداخلية وحدها لا تكفي إذا لم تترافق مع قبول إقليمي ودولي.


السؤال المطروح ليس فقط: أي شكل حكم نختار؟ بل: كيف نبني نظامًا يضمن عدم عودة الاستبداد، ويعكس التنوع السوري، ويعزز وحدة البلاد في وجه مشاريع التقسيم.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 9