في مشهد يعكس عمق التوتر داخل إسرائيل، استؤنفت في التاسع من سبتمبر 2025 جلسات محاكمة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بعد توقف استمر أسابيع بسبب عطلة الصيف القضائية وتأجيلات متكررة فرضتها اعتبارات أمنية وسياسية. الجلسة التي عُقدت خلف أبواب مغلقة لم تكن مجرد إجراء قانوني روتيني، بل بدت كاختبار حقيقي لمدى قدرة النظام القضائي على فرض سلطته في مواجهة رئيس وزراء يقود الحكومة وفي الوقت نفسه يمثل أمام القضاة بتهم فساد خطيرة.
جلسة مغلقة وذريعة أمنية
اللافت أن المحكمة قررت إبقاء الجلسة مغلقة بحجة حساسية المواد المطروحة، وهو ما يثير جدلًا واسعًا داخل الأوساط الحقوقية والسياسية. فإغلاق الجلسات يمنح نتنياهو هامشًا إضافيًا للمناورة بعيدًا عن أعين الرأي العام، بينما يروّج فريقه القانوني لرواية أن الأمر يتعلّق بأسرار دولة وأمن قومي، أكثر مما يتعلّق بتهم فساد ورشاوى واستغلال منصب.
توقيت الجلسة نفسه جاء بعد تأجيل مثير للجدل، إذ أرجئ مثول نتنياهو أمام المحكمة في الثامن من سبتمبر بسبب هجوم إرهابي وقع في القدس، ما أتاح له كسب يوم إضافي للتهيؤ والاستعداد لمواجهة القضاة.
ضغط على جدول المحاكمة
القضاة الذين يتولون ملف نتنياهو باتوا أكثر تشددًا في الأشهر الأخيرة، فقد أصدروا في أغسطس قرارًا بزيادة عدد الجلسات الأسبوعية إلى أربع، في محاولة واضحة لتسريع الإجراءات ووقف سلسلة التأجيلات التي طبعت مسار المحاكمة منذ انطلاقها عام 2020.
هذا القرار يعكس إدراك المؤسسة القضائية لخطورة تراكم التأجيلات، خصوصًا أن نتنياهو وحلفاءه يسعون لاستنزاف المحكمة بالوقت والتعقيدات الإجرائية، على أمل الوصول إلى صفقة أو تعديل سياسي يفرغ القضية من مضمونها.
ثلاث قضايا في محاكمة واحدة
القضايا المرفوعة ضد نتنياهو ليست عادية ولا هامشية، فهي تشمل ثلاث ملفات معروفة بأرقامها:
القضية 1000: الحصول على هدايا فاخرة من رجال أعمال مقابل خدمات سياسية.
القضية 2000: محاولة التأثير على تغطية إعلامية لصالحه عبر صفقات مشبوهة مع ناشري صحف.
القضية 4000: أخطرها على الإطلاق، حيث يُتهم نتنياهو بمنح امتيازات تنظيمية لشركة الاتصالات العملاقة "بيزك" مقابل تغطية إيجابية من موقع "واللا" الإخباري.
هذه الملفات، إذا ما أثبتت المحكمة صحتها، قد تعني الإطاحة الكاملة برئيس وزراء ما زال يمسك بمقاليد السلطة، ما يجعل المحاكمة حدثًا استثنائيًا في تاريخ إسرائيل.
سياسة مقابل قضاء
المفارقة الكبرى تكمن في أن نتنياهو لا يمثل فقط أمام قضاة ينظرون في قضايا فساد، بل يقود حكومة يمينية قوية تخوض تحديات أمنية وسياسية متشابكة، من تصعيد عسكري في غزة ولبنان إلى توترات داخلية متصاعدة. هذا التداخل بين السياسة والقضاء يمنحه قوة ضغط غير مسبوقة، لكنه في الوقت ذاته يضع إسرائيل أمام معضلة: كيف يمكن لنظام ديمقراطي أن يحاكم رئيس حكومته وهو لا يزال في الحكم؟
محاكمة نتنياهو التي بدأت قبل خمس سنوات لم تعد قضية قانونية فحسب، بل تحولت إلى اختبار لقدرة إسرائيل على الفصل بين السلطات. فبينما يسعى القضاة لتكثيف الجلسات وإظهار جدية المسار القضائي، يستمر نتنياهو في استخدام موقعه السياسي لتعطيل المحاكمة، مستندًا إلى اعتبارات أمنية وأحداث طارئة لتمديد عمر الإجراءات.
ومع استئناف الجلسات خلف الأبواب المغلقة، تبدو إسرائيل أمام مرحلة جديدة من الصراع بين سلطة القضاء ونفوذ السياسة، حيث يبقى السؤال مفتوحًا: هل سينجح القضاء في فرض حكمه على أقوى رجل في الدولة، أم أن السياسة ستنتصر مجددًا على العدالة؟