على مفترق الطرق: هل تنجح سوريا في كسر إرث الخوف؟

أماني إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.09.08 - 04:43
Facebook Share
طباعة

بعد أكثر من خمسة عقود من حكم الأسرة الحاكمة، وخلال أربعة عشر عامًا من الحرب المستمرة التي مزقت النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في سوريا، تواجه البلاد اليوم مرحلة انتقالية شديدة التعقيد. سقوط نظام بشار الأسد لم ينهِ فقط حكمًا دكتاتوريًا، بل أطلق أيضًا سلسلة من التحديات البنيوية والسياسية، أبرزها كيفية إعادة بناء الدولة، استعادة الثقة بين مختلف المكونات، وإصلاح الأجهزة الأمنية والسجون التي كانت أداة رئيسية في ترسيخ "حكم الخوف".

تتناول "نيويورك تايمز" في تقريرها الأخير المشهد السياسي السوري الجديد، مركّزة على المبادرات الإصلاحية التي أعلنها الرئيس أحمد الشرع وفريقه، مقابل المخاوف المستمرة من تكرار أساليب الحكم السلطوية القديمة. ويشير التقرير إلى مؤشرات مقلقة، تشمل تركيز السلطة في يد الرئيس ومقربين منه، العنف الطائفي المتصاعد، تعثر المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية، والجدل حول الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها.

إرث الخوف: السجون كأداة للسلطة

لطالما كانت سوريا، تحت حكم الأسد، دولة أمنية تُدار عبر الخوف والترهيب. كانت السجون، وعلى رأسها سجن صيدنايا سيء السمعة، رموزًا واقعية للقمع: اعتقالات جماعية، إخفاء قسري، تعذيب، وإعدامات خارج القانون. لم يكن المواطنون يجرؤون على الاقتراب من مؤسسات الدولة الأمنية، فيما كانت الأجهزة الأمنية تلعب دور العمود الفقري لحكم الأسرة الحاكمة.

في مايو 2025، أعلنت وزارة الداخلية السورية عن خطة شاملة لإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والسجون، بهدف حماية حقوق الإنسان وضمان كرامة السجناء. وشملت الخطة إنشاء سجون جديدة وإعادة تأهيل القائمة منها وفق المعايير الإنسانية. وقال المتحدث باسم الوزارة، نور الدين البابا: "إن طغيان الأجهزة الأمنية قد انتهى"، مشيرًا إلى بداية مرحلة جديدة في إدارة الأمن والعدالة.

السلطة المركزة: استمرار نمط الحكم القديم

رغم هذه المبادرات الإصلاحية، يظهر أن الرئيس أحمد الشرع يتركز حوله كل مفاصل السلطة، مع إشراك مقربين وأشقائه في مناصب رئيسية، ما يثير مخاوف من استمرارية أساليب الحكم المركزي والسلطوي التي عرفتها سوريا سابقًا.

تقول منى يعقوبيان، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن: "النظام لا يزال رئاسيًا قويًا، وهناك مقاومة لفكرة اللامركزية ومنح مختلف المكونات الحق في المشاركة بالحكم"، فيما تضيف لارا نلسون من منظمة "إيتانا سوريا": "مؤشرات الاستمرارية واضحة، حتى مع الخطوات الإصلاحية، والسلطة ما زالت مركزة في يد قلة ضيقة".

خطوات الإصلاح: شعارات أم حقيقة؟

هناك بعض الفوارق المهمة مع النظام السابق، أبرزها فتح مكاتب لتلقي الشكاوى وضمان المساءلة، ما لم يكن موجودًا سابقًا. لكن هذه الإصلاحات لا تزال محدودة على المستوى العملي، خاصة مع الانتخابات البرلمانية المرتقبة، التي ستشمل تعيين الرئيس ثلث المقاعد، واختيار بقية المقاعد عبر هيئات محلية، مع تخصيص خُمسها للنساء.

كما تم تأجيل التصويت في ثلاث محافظات خارج سيطرة الحكومة، مع تعيين ممثلين عنها، ما يعكس الصعوبة في توحيد البلاد وإجراء انتخابات تمثل كافة مكوناتها. ويبرز هذا التحدي بشكل أكبر في ظل استمرار الحرب والاشتباكات المحلية، ما يثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على ضمان شرعية العملية الانتخابية.

العنف الطائفي وأزمة الثقة

غياب الشمولية في صنع القرار أدى إلى توترات بين الحكومة ومكونات الأقليات، مثل المسيحيين، العلويين، الدروز، والأكراد. وقد تصاعدت حدة هذه الأزمة مع ثلاث موجات من العنف الطائفي خلال الأشهر الستة الماضية، أسفرت عن مئات القتلى، لا سيما في محافظة السويداء الجنوبية.

وعلى الرغم من فتح الحكومة تحقيقات في هذه الانتهاكات، حذر المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، مجلس الأمن من هشاشة المرحلة الانتقالية وخطر استمرار النزاع، مؤكدًا أن سوريا بحاجة إلى مسار واضح وشامل يقوم على الشمولية والشفافية لضمان استقرار البلاد ودعم المجتمع الدولي.

"هيئة تحرير الشام" وتمركز السلطة

يشير التقرير إلى أن الفريق الحكومي يضم بعض الوزراء من أصحاب الخبرة العائدين من الشتات السوري، إضافة إلى ممثلين عن الأقليات وامرأة واحدة، وهو مؤشر محدود على الانفتاح. لكن الوزارات السيادية مثل الدفاع والداخلية والخارجية تدار من قبل مقربين من الرئيس، كانوا سابقًا جزءًا من "هيئة تحرير الشام"، ما يعكس استمرار هيمنة هذه الفصائل على مفاصل الدولة الأساسية.

يتولى وزير الداخلية، أنس خطاب، إعادة بناء قوات الأمن والشرطة، فيما يسيطر وزير الخارجية، أسعد الشيباني، على السياسة الداخلية والخارجية شبه مجتمعة، ويشبه دوره منصب رئيس الوزراء في التحكم بمختلف الملفات الاستراتيجية.

تحديات المرحلة الانتقالية

توحيد البلاد بين مناطق متفرقة

تظل مسألة توحيد سوريا واحدة من أبرز التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة. فالبلاد مقسمة منذ سنوات الحرب بين مناطق تحت السيطرة المركزية، وأخرى خاضعة لإدارات محلية مستقلة، بما في ذلك مناطق يسيطر عليها الأكراد في الشمال الشرقي وفصائل مسلحة مختلفة في الشمال الغربي والجنوب. هذا الانقسام الجغرافي يعقد جهود الحكومة في فرض سلطة موحدة، ويخلق فجوات كبيرة في تقديم الخدمات العامة والأمن، ما يزيد من صعوبة بناء دولة متماسكة وموحدة سياسياً واجتماعياً.

السيطرة على العنف الطائفي

العنف الطائفي والانتقامي يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار. فخلال الأشهر الستة الماضية، شهدت محافظة السويداء الجنوبية اشتباكات دامية بين قبائل مسلحة وفصائل من الطائفة الدرزية، أسفرت عن مئات القتلى والجرحى. هذا العنف لم يقتصر على الاشتباكات بين المدنيين، بل تورطت فيه عناصر مرتبطة بالقوات الحكومية في أعمال انتقامية خارج القانون. السيطرة على هذا العنف تتطلب من الحكومة آليات أمنية فعّالة، إضافة إلى محاكمات شفافة وضمان مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، بما يعزز الثقة في الدولة ويحد من دورة العنف.

إجراء انتخابات نزيهة وشفافة

تعتبر الانتخابات أحد أهم أدوات بناء شرعية الحكومة الجديدة. لكن الانتخابات المقبلة تواجه تحديات كبيرة، منها تأجيل التصويت في ثلاث محافظات خارج السيطرة المركزية، وتعيين ممثلين عنها، ما يقلل من مصداقية العملية الانتخابية. لضمان نجاح المرحلة الانتقالية، يجب أن تشمل الانتخابات كافة المكونات السياسية والدينية والإثنية، وأن تُجرى بطريقة شفافة تمكّن الشعب السوري من التعبير عن إرادته بحرية، دون تأثير الفصائل المسلحة أو الضغوط الخارجية.

إصلاح الأجهزة الأمنية والسجون

تطوير الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلة السجون يعد ركيزة أساسية لمنع العودة إلى أساليب القمع السابقة. مع الإعلان عن خطط لبناء سجون جديدة وتأهيل القديمة وفق معايير حقوق الإنسان، يبقى التحدي الأكبر في تنفيذ هذه الخطط على الأرض، خصوصًا مع وجود عناصر سابقة من النظام السابق أو فصائل متطرفة ضمن الأجهزة الأمنية الحالية. إن فشل الحكومة في تحقيق إصلاح فعلي سيؤدي إلى فقدان الثقة بين المواطنين والدولة، ويهدد استقرار المرحلة الانتقالية برمتها.
 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 3 + 10