بعد أكثر من عقد على العزلة والحصار، تعود دمشق اليوم إلى الواجهة السياسية بقيادة الرئيس الجديد أحمد الشرع، حاملة مشروعاً لإعادة صياغة موقع سوريا في المعادلة الإقليمية والدولية. لم تعد التحركات الأخيرة مجرد إشارات بروتوكولية، بل خطوات مدروسة تهدف إلى كسر الطوق الذي فرضته الأزمة منذ 2011. فبين مساعي الانفتاح على العواصم العربية والغربية، وتعزيز الارتباط الاستراتيجي مع موسكو وبكين، تتحرك دمشق على خيط دبلوماسي دقيق، حيث يتداخل الأمل باستعادة الدور مع واقع الضغوط الاقتصادية والسياسية التي ما زالت تشكل كوابح ثقيلة أمام أي عودة كاملة إلى المشهد.
الانفتاح العربي: بين الدعم والتحفظ
عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية العام الماضي لم تكن مجرد خطوة رمزية، بل شكلت غطاءً سياسياً أولياً أعاد دمشق إلى دائرة الفعل الإقليمي بعد سنوات من العزلة. هذا التطور أعطى القيادة السورية هامشاً أوسع للتحرك، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام نقاشات داخلية عربية حول حدود هذا الانفتاح.
في المقابل، لا تزال المواقف العربية متباينة. فهناك دول داعمة ترى أن إعادة دمج سوريا ضرورة استراتيجية لتحقيق توازن إقليمي يمنع انهيار المنظومة العربية لصالح محاور إقليمية أخرى كإيران وتركيا. هذه الدول تنطلق من قناعة بأن إبقاء سوريا خارج المشهد لن يؤدي إلا إلى فراغ يزيد من نفوذ اللاعبين الخارجيين.
في الجهة الأخرى، برزت دول متحفظة تشدد على أن عودة دمشق يجب أن ترتبط بإصلاحات سياسية وأمنية ملموسة، خصوصاً في ملفات مثل المصالحة الوطنية، وملف اللاجئين، وضبط الحدود. هذه الأطراف تخشى أن يؤدي فتح الأبواب أمام دمشق من دون شروط إلى إضفاء شرعية مجانية من دون معالجة جذور الأزمة.
وبين هذين الموقفين، يجد الرئيس السوري أحمد الشرع نفسه أمام تحدٍّ دبلوماسي معقد: كيف يكسب ثقة الأطراف المترددة من دون خسارة داعميه التقليديين؟ هذه المعادلة هي التي ستحدد ما إذا كان الانفتاح العربي مجرد محطة مؤقتة، أم بداية لعودة سورية أوسع إلى المشهد الإقليمي.
خيارات دمشق مع الغرب: عقوبات ومناورات
تبدو إعادة بناء الجسور مع الغرب مهمة شديدة التعقيد بالنسبة لدمشق. فالعقوبات الاقتصادية والسياسية التي فُرضت منذ أكثر من عقد ما تزال قائمة وتشكل حاجزاً صلباً أمام أي تقارب حقيقي. هذه العقوبات لا تقتصر على تجميد الأموال أو حظر التعاملات، بل تمتد لتشمل قيوداً على الاستثمار وإعاقة مشاريع إعادة الإعمار، وهو ما يجعل التحرك السوري في هذا الاتجاه محفوفاً بالعقبات.
رغم ذلك، تدرك القيادة السورية أن الحاجة الأوروبية إلى الاستقرار في الشرق الأوسط قد تشكل فرصة للمناورة. فالهواجس المتعلقة بالهجرة غير الشرعية، وتدفق اللاجئين، والتهديدات الأمنية العابر للحدود، كلها عوامل قد تدفع بعض العواصم الأوروبية للتفكير في مقاربة أكثر مرونة تجاه دمشق، ولو على شكل حوار غير مباشر أو اتصالات محدودة النطاق.
في هذا السياق، يبرز الملف الإنساني كبوابة محتملة للتفاهم. إذ يمكن لدمشق أن توظف قضية المساعدات والإغاثة كأرضية مشتركة، تسمح بفتح قنوات اتصال إنسانية بعيداً عن الملفات السياسية الشائكة، على أمل أن تتطور لاحقاً إلى حوار سياسي محدود.
غير أن ملف إعادة الإعمار يظل الورقة الأكثر حساسية في العلاقة مع الغرب. فدمشق ترى في الاستثمارات الغربية ركيزة ضرورية لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة وتحريك عجلة الاقتصاد، لكنها تصطدم برفض أميركي صريح يمنع أي انخراط مالي من دون شروط سياسية قاسية. هذا الموقف يضع الأوروبيين في مأزق بين الحاجة العملية لإعادة الاستقرار في سوريا وبين الالتزام بالخط الأميركي المتشدد.
وبين العقوبات الثقيلة من جهة، والحاجة الأوروبية للتهدئة من جهة أخرى، تراهن دمشق على أن اللعب على التناقضات الغربية قد يفتح لها ثغرة دبلوماسية، ولو محدودة، في جدار العزلة القائم منذ سنوات.
الرهان على موسكو وبكين
الرهان على موسكو وبكين: تحالفات تقليدية بوجه جديد
في ظل صعوبة الانفتاح على الغرب، يواصل الرئيس السوري أحمد الشرع الاعتماد على الحلفاء التقليديين لدمشق كركيزة رئيسية لتحركاته الدبلوماسية. وفي مقدمة هؤلاء تأتي روسيا، التي لعبت منذ سنوات الدور العسكري والسياسي الأبرز في تثبيت موقع النظام السوري، وتعتبر وجودها في سوريا جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيتها لمدّ نفوذها في الشرق الأوسط. بالنسبة لموسكو، تظل دمشق قاعدة متقدمة على المتوسط، ونقطة ارتكاز في مواجهة الضغوط الغربية.
أما الصين، فهي تتعامل مع الملف السوري من زاوية مختلفة، حيث تنظر إلى البلاد كفرصة اقتصادية ضمن مشروعها الضخم "الحزام والطريق". بكين ترى أن إعادة إعمار سوريا، رغم تعقيداته، قد يفتح أمامها بوابة جديدة للنفاذ إلى الأسواق الإقليمية وربط المشرق العربي بممراتها التجارية. لذلك تسعى إلى تعزيز حضورها عبر مشاريع البنية التحتية والاستثمارات طويلة المدى، مع تجنب الانخراط المباشر في النزاعات العسكرية.
هذا المحور الروسي–الصيني يمنح دمشق غطاءً سياسياً في المحافل الدولية، ويخفف من وطأة الضغوط الغربية عبر استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، أو عبر توفير دعم اقتصادي جزئي يساعد على إبقاء الدولة واقفة على قدميها. غير أن هذا التحالف لا يلغي الحاجة السورية إلى توازن مدروس، إذ إن الاعتماد المفرط على موسكو وبكين وحدهما قد يطيل أمد الحصار الاقتصادي الغربي، ويجعل البلاد أسيرة لمحاور محدودة التأثير في الملفات المالية العالمية.
وبالتالي، تبدو استراتيجية الشرع قائمة على الاستفادة القصوى من الدعم الروسي–الصيني، مع ترك الباب موارباً أمام أي فرصة للتقارب مع الغرب، بما يضمن تنويع الخيارات وتجنب الوقوع في عزلة اقتصادية طويلة الأمد.
التحديات الداخلية: اقتصاد منهك وأمن هش
رغم كل ما تبذله دمشق على المستوى الدبلوماسي، يبقى الداخل السوري الحلقة الأصعب في معادلة العودة السياسية. فأي انفتاح خارجي لن يكتمل دون معالجة الملفات الداخلية العالقة، التي لا تزال تشكّل اختباراً لقدرة الدولة على الصمود وإقناع الشركاء الإقليميين والدوليين بجدوى دعمها.
الأزمة الاقتصادية: عبء ثقيل على الشارع
تتصدر الأزمة الاقتصادية قائمة التحديات. فالتضخم المستمر، وارتفاع الأسعار، ونقص المواد الأساسية، كلها عوامل أثقلت كاهل المواطن السوري وأضعفت الثقة في قدرة الدولة على تسيير شؤونها. هذا الوضع لا يشكل فقط ضغطاً اجتماعياً، بل يهدد أيضاً الاستقرار السياسي، إذ يفتح الباب أمام احتجاجات أو اضطرابات يمكن أن تستغلها أطراف معارضة داخلية أو قوى خارجية.
الملف الأمني: سيادة منقوصة
إلى جانب الأزمة الاقتصادية، يظل الملف الأمني عقدة أساسية. فمناطق الشمال السوري ما زالت خارج السيطرة الكاملة لدمشق بفعل النفوذ التركي والفصائل المسلحة، فيما يشهد الشرق وجوداً عسكرياً أميركياً وتحالفات محلية تُضعف سلطة الدولة المركزية. هذه الصورة تجعل دمشق في نظر كثير من الشركاء المحتملين دولة ذات سيادة منقوصة، ما يعرقل أي اندماج دبلوماسي أو اقتصادي كامل.
صورة الدولة أمام الخارج
إجمالاً، فإن استمرار هذه التحديات الداخلية يقوّض قدرة سوريا على تسويق نفسها كشريك مستقر وموثوق. فالدبلوماسية الناجحة تحتاج إلى أرضية صلبة في الداخل، وهو ما يدركه الرئيس أحمد الشرايعة الذي يجد نفسه أمام معادلة صعبة: إما أن ينجح في معالجة الأزمات الداخلية، أو تبقى أي محاولات للانفتاح الخارجي محدودة التأثير.
إسرائيل: حسابات القلق والترقب
من منظور إسرائيلي، تبقى أي عودة سورية إلى الساحة الإقليمية محاطة بكثير من الشكوك والهواجس الأمنية. فتل أبيب لا تنظر إلى دمشق فقط باعتبارها دولة جارة، بل كحلقة متشابكة مع ملفات حساسة تتعلق بإيران وحزب الله والجولان. لهذا السبب، فإن أي تحرك سوري دبلوماسي أو سياسي يُقرأ في إسرائيل باعتباره عاملاً قد يُعيد خلط الأوراق في المنطقة.
النفوذ الإيراني: مصدر القلق الأكبر
في المقام الأول، تخشى إسرائيل أن يؤدي انفتاح دمشق على العالم العربي والدولي إلى منح إيران مساحة أوسع لتكريس نفوذها في سوريا، إذ ترى أن أي تقارب دولي مع دمشق قد يضفي شرعية غير مباشرة على هذا الوجود، ما يعقّد جهودها المستمرة للحد منه.
الجولان والحدود الشمالية
يبقى الملف الأمني في الجولان نقطة حساسة للغاية. إذ تخشى إسرائيل أن تسعى دمشق، بعد استعادة بعض مكانتها الإقليمية، إلى إعادة طرح قضية الجولان المحتل على الطاولة الدولية. كما تخشى من أن يشجع هذا الانفتاح دمشق أو حلفاءها على تحريك جبهات التوتر على الحدود الشمالية، ما يعيد شبح المواجهة المباشرة إلى الواجهة.
سياسة المراقبة والضربات المحدودة
في ظل هذه المعطيات، تبدو السياسة الإسرائيلية حالياً قائمة على الترقب الحذر، مع الاستمرار في تنفيذ ضربات جوية محدودة تستهدف مواقع مرتبطة بإيران داخل سوريا، من دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة مع السلطة السورية الجديدة. هذه الاستراتيجية تعكس رغبة تل أبيب في احتواء النفوذ الإيراني مع إبقاء دمشق تحت الضغط، وفي الوقت نفسه تجنّب فتح جبهة واسعة قد تقلب التوازنات القائمة.
عزلة طويلة ومحاولات كسر الطوق
منذ عام 2011، دخلت سوريا في عزلة سياسية خانقة سرعان ما تحولت إلى حصار اقتصادي معقد، شمل عقوبات غربية قاسية وقطعاً واسعاً لشبكة علاقاتها العربية والدولية. ومع اشتداد الصراع الداخلي، لعب التدخل الروسي والإيراني دوراً محورياً في الحفاظ على بقاء الدولة، لكنه جاء على حساب تراجع نفوذ دمشق الذاتي وخسارتها لمكانتها التقليدية في المعادلة العربية.
عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية العام الماضي شكّلت نقطة تحول مهمة، أعادت بعض الشرعية الرسمية لنظامها السياسي. لكنها لم ترتقِ بعد إلى مستوى إعادة تأهيل شامل، سواء عبر رفع العقوبات أو استئناف العلاقات الكاملة مع الغرب أو حتى الحصول على دعم اقتصادي يعيد بناء ما دمرته الحرب.
اختبار المرحلة: بين الانفتاح والتحالفات الضيقة
المسار الذي يسلكه الرئيس أحمد الشرع اليوم يمثل اختباراً سياسياً حقيقياً. فدمشق تحاول كسر دائرة العزلة عبر الجمع بين انفتاح عربي حذر ومحاولات للتواصل مع القوى الدولية، مع الاستناد إلى حلفائها التقليديين في موسكو وبكين. غير أن الطريق ليس مفروشاً بالورود؛ إذ تعترضه عقبات داخلية مرتبطة بالاقتصاد والأمن، وخلافات عميقة مع الغرب، إلى جانب تحفّظات عربية لم تُحسم بعد.
في هذا السياق، تبدو سوريا عالقة بين خيارين: إما أن تنجح في استعادة موقعها كفاعل إقليمي عبر نسج شبكة توازنات جديدة، أو تبقى رهينة تحالفات محدودة تقلل من قدرتها على لعب أدوار مؤثرة في الملفات الكبرى للمنطقة.
العامل الإسرائيلي: محدد رئيسي للحركة السورية
في المقابل، تظل إسرائيل عاملاً حاسماً في رسم حدود الحركة السورية. فقلق تل أبيب من تعاظم النفوذ الإيراني في سوريا ومن احتمال إعادة طرح ملف الجولان يجعل أي انفتاح دبلوماسي لدمشق مرهوناً بقدرتها على موازنة دقيقة: تطمين العواصم العربية من جهة، واحتواء المخاوف الإسرائيلية من جهة أخرى. هذه المعادلة المعقدة ستبقى حجر الأساس الذي يحدد مدى نجاح دمشق في العودة لاعباً مركزياً في الإقليم، أو بقائها في موقع المتفرج على دينامياته.