ريف حلب الشرقي.. اشتباكات تعيد رسم النفوذ

سامر الخطيب

2025.09.08 - 11:49
Facebook Share
طباعة

 لم يكن الاشتباك الذي وقع أواخر آب الماضي في قرية تل ماعز بريف حلب الشرقي مجرد حادثة ميدانية عابرة، بل محطة جديدة في مسلسل التوتر المستمر بين قوات الحكومة السورية و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). وعلى الرغم من توقف المواجهة سريعًا، إلا أنّ تكرارها خلال فترة قصيرة، وفي مواقع متقاربة، يعكس هشاشة التفاهمات السابقة، ويفتح الباب أمام أسئلة جوهرية حول مستقبل العلاقة بين الطرفين، ومدى قدرة الاتفاقات الموقّعة على الصمود في ظل تضارب الروايات وتعدد الحسابات.


روايات متناقضة
بحسب ما نقلته وسائل الإعلام الرسمية في دمشق، فإن وحدة من الجيش السوري نصبت كمينًا لمجموعة تابعة لـ"قسد" حاولت التسلل إلى نقاط عسكرية في تل ماعز، ما أدى إلى سقوط خسائر بشرية في صفوف المهاجمين. وأشارت الرواية الرسمية إلى أنّ "قسد" حاولت سحب عناصرها لاحقًا، لتندلع مواجهة شملت الأسلحة الثقيلة واستقدام تعزيزات.


لكن "قسد" نفت هذه الرواية بالكامل عبر بيان رسمي، واعتبرت أنّ ما جرى ليس سوى تضليل إعلامي، مؤكدة أن الاشتباكات المزعومة لم تشمل قواتها، بل كانت نتيجة خلافات داخلية بين مجموعات تابعة للحكومة نفسها. هذا التناقض بين السرديتين يعكس أزمة ثقة مستحكمة، حيث يستخدم كل طرف الإعلام كسلاح موازٍ للرصاص.


ولم تكن حادثة تل ماعز استثناءً؛ فقبلها بأسابيع اندلعت اشتباكات في قرية حرمل الإمام شمال دير حافر، حيث أعلنت "قسد" أنها صدت هجومًا نفذته فصائل محسوبة على الحكومة، بينما تحدثت دمشق عن قصف استهدف مواقع للجيش وأوقع إصابات بين الجنود والمدنيين.


رسائل سياسية لا معارك عابرة
يرى محللون أن هذه الاشتباكات المتكررة ليست مجرد أحداث أمنية بلا سياق، بل تحمل رسائل سياسية متبادلة. فكل طرف يسعى إلى تذكير الآخر بحدود قوته على الأرض، وإلى تحسين موقعه التفاوضي ضمن اتفاق آذار الموقّع في آذار الماضي بين دمشق و"قسد"، والذي نص على دمج المؤسسات المدنية والعسكرية وإدارة المعابر وحقول النفط ضمن سلطة الدولة.


الأكاديمي في العلاقات الدولية محمد الجابي يوضح أن مثل هذه الحوادث تعكس "آلية ضغط ميداني" يستخدمها الطرفان للتأكيد على امتلاك أوراق قوة، مشيرًا إلى أن الخلافات حول تنفيذ الاتفاق – من تقاسم الموارد إلى إدارة المعابر – تجعل أي تفاهم نظري مهددًا بالانهيار عند أول احتكاك.


البعد الإقليمي
لا تنفصل هذه التطورات عن سياقها الإقليمي والدولي. ففي الرابع من أيلول، حذرت وزارة الدفاع التركية "قسد" من المضي في أي مسار يعاكس وحدة سوريا، ودعتها إلى الاندماج في الجيش والتخلي عن السلوك الانفصالي. هذا الموقف التركي يضيف ضغطًا جديدًا على "قسد"، ويضاعف من حساسيات العلاقة مع دمشق، خاصة أن أنقرة تراقب بقلق أي صيغة تمنح "قسد" شرعية ميدانية أو سياسية.


إلى جانب ذلك، تسعى القوى الدولية إلى استثمار هذه التوترات بما يخدم أجنداتها، سواء عبر دعم تفاهمات مرحلية أو عبر تغذية النزاع لتقوية أوراق التفاوض على ملفات إقليمية أوسع.


هشاشة الاتفاقات
اتفاق آذار بين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي كان يفترض أن يشكل أرضية صلبة لدمج المؤسسات وتوحيد الإدارة. لكن الاشتباكات الأخيرة كشفت أن التطبيق العملي يواجه عراقيل حقيقية، أبرزها غياب الثقة، وتباين أولويات الطرفين، والارتباطات الخارجية المتناقضة.


ورغم ذلك، يستبعد خبراء انزلاق الوضع إلى مواجهة عسكرية شاملة، إذ يدرك الطرفان أن الانفجار الواسع سيعيد البلاد إلى نقطة الصفر. ومع ذلك، فإن تكرار الاشتباكات يعزز المخاوف من أن يبقى الاستقرار مؤقتًا وهشًا، رهنًا بتفاهمات آنية لا ترقى إلى مستوى الحلول المستدامة.


دير حافر.. عقدة جغرافية
تكتسب دير حافر موقعًا استراتيجيًا لكونها عقدة مواصلات تربط بين مناطق سيطرة الحكومة وريف منبج حيث تنتشر "قسد". هذا التداخل الجغرافي يجعل أي احتكاك محتملًا وقابلًا للتوسع بسرعة، وهو ما يفسر تكرار الاشتباكات في محيطها. فالمنطقة تمثل خط تماس دائم، وتحمل في طياتها كل عناصر التوتر: مواقع عسكرية متقاربة، نفوذ متداخل، وموارد متنازع عليها.


ما بعد تل ماعز
في المحصلة، تبدو أحداث تل ماعز وحرمل الإمام بمثابة تذكير بأن سوريا لا تزال تعيش على وقع خطوط تماس متفجرة، وأن الاتفاقات السياسية تظل حبراً على ورق ما لم تترافق مع خطوات عملية لتبديد الشكوك وضبط الفصائل غير المنضبطة. وبينما يحاول كل طرف فرض روايته وشرعيته، يبقى المدنيون في ريف حلب الشرقي الخاسر الأكبر، حيث تعني أي مواجهة جديدة تهديدًا لأمنهم الهش ومعيشتهم المتداعية.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 4 + 1