أثار اتفاق سوداني-مصري في قطاع الذهب موجة من الاتهامات والجدل المتبادل بين الشريكين، وسط رفض الهيئة الشعبية للإقليم الشمالي توقيع ما وصفته بـ"الصفقة المشبوهة". الاتفاق الذي يهدف إلى استثمار نحو 277.3 مليون دولار لتطوير قطاع الذهب والحديد في السودان، يفتح ملفًا معقدًا حول الشفافية، وتقاسم المنافع، والاستراتيجيات الوطنية للتعدين.
تشمل الاتفاقية عمليات استكشاف وإنتاج في ولايات استراتيجية، منها الشمالية، البحر الأحمر، نهر النيل، والقضارف، بالإضافة إلى إنشاء مصنع لمعالجة المخلفات ومصفاة حديثة للذهب. وتمثل الصفقة استثمارًا طويل الأجل يتيح للشركة المصرية والسودانية السيطرة على 85% من منجم أركيديا، وهو أحد المناجم عالية الإمكانات في البلاد، ما يعكس طموحًا كبيرًا لخلق سلسلة إنتاج متكاملة تعزز القيمة المضافة للموارد المعدنية السودانية.
نفى رجل الأعمال المصري محمد الجارحي تصريحات مدير عام شركة "ديب ميتالز" مبارك أردول، الذي أكد أن الصفقة لم تُوقع بعد. وأوضح الجارحي في منشور رسمي أن الاتفاقية وُقعت بالفعل برعاية وزارة المعادن السودانية والوزير نور الدائم محمد أحمد طه، معتبرًا أن الخطوة تعكس ثقة متزايدة في مستقبل قطاع التعدين بالسودان، وأهمية جذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية إلى هذا القطاع الحيوي.
في المقابل، كشفت مصادر لصحيفة الكرامة السودانية عن توجه داخل مجلس الوزراء برئاسة كامل إدريس لإجراء تحقيق شامل في الصفقة، وسط مطالبات بمراجعة جميع التعاقدات في قطاع التعدين، ووقف أي إجراءات توقيع محتملة لحين الانتهاء من المراجعة. هذا الجدل يعكس انقسامات داخلية حول إدارة الموارد المعدنية، وأهمية إشراك الجهات المحلية لضمان توزيع عادل للمنافع الاقتصادية.
استثمار واستغلال
تقدم الصفقة نموذجًا جديدًا للاستثمار في قطاع التعدين بالسودان، حيث تمنح الشركة القدرة على استثمار تقنيات حديثة لمعالجة المخلفات وتصنيع الذهب بمصفاة متطورة. وتشير التحليلات الاقتصادية إلى أن هذه الخطوة قد ترفع إنتاج السودان من الذهب والحديد، وتخلق فرص عمل محلية، وتعزز الإيرادات الوطنية. ومع ذلك، فإن المخاطر الاقتصادية تبقى حاضرة، خصوصًا فيما يتعلق بتقلب أسعار المعادن عالميًا، وضرورة ضمان عوائد مستدامة للشركات السودانية والفئات المحلية.
الجدل حول الاتفاقية ليس اقتصاديًا فقط، بل سياسيًا أيضًا، إذ يعكس صراعًا على النفوذ بين الحكومة المركزية والإدارات المحلية، وبين الأطراف السودانية والمصرية. الهيئة الشعبية للإقليم الشمالي رفضت الصفقة، معتبرة أنها قد تهدد مصالح السكان المحليين وتستحوذ على ثرواتهم دون فوائد ملموسة لهم. ويبرز السؤال حول مدى قدرة الحكومة السودانية على الموازنة بين جذب الاستثمار والحفاظ على سيادة القرار الوطني والمصالح المحلية.
يمثل الذهب والحديد جزءًا أساسيًا من الاقتصاد السوداني منذ عقود، وقد شهدت البلاد عدة موجات استثمار دولي ومحلي في قطاع التعدين. ومع ذلك، غالبًا ما رافق هذه المشاريع جدل حول الشفافية وتقاسم العوائد، ما جعل أي اتفاقية جديدة تخضع لمراجعات دقيقة من قبل الحكومة والمجتمع المدني. الاتفاقية الحالية مع مصر تعد إحدى أبرز المحاولات لإعادة رسم خارطة الاستثمار في المعادن، لكنها جاءت في وقت حساس على صعيد السياسة الداخلية، خصوصًا مع توترات متزايدة بين السلطات المركزية والمجتمعات المحلية.
يواجه تنفيذ الصفقة عدة تحديات، منها ضمان الشفافية في العقود، وتوفير الحماية البيئية، ومراقبة التوزيع العادل للعوائد، إلى جانب إدارة العلاقات بين الشركاء المحليين والدوليين. كما أن التحديات الأمنية في بعض الولايات الحدودية قد تؤثر على استقرار الإنتاج والاستثمار، بينما يظل الضغط الشعبي للرقابة على التعاقدات أمرًا حاسمًا لضمان عدم تكرار أخطاء الماضي.
تظل الصفقة السودانية-المصرية للذهب نموذجًا واضحًا للتحديات التي تواجه السودان في إدارة قطاع التعدين: موازنة بين جذب الاستثمارات، حماية الموارد الوطنية، وإشراك المجتمعات المحلية في صنع القرار. وفي ظل استمرار الجدل والاتهامات المتبادلة، سيكون مراقبو الاقتصاد والسياسة السودانية على موعد مع مرحلة دقيقة تحدد مستقبل أحد أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد.