تصريحات رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون الأخيرة بأن الرئيس السابق دونالد ترامب كان "مخبراً لدى الـFBI" للمساعدة في تفكيك شبكة جيفري إبستين لم تكن مجرد زلة لسان سياسية، بل أشعلت جدلاً داخلياً يلامس أكثر الملفات حساسية في الولايات المتحدة: شبكة إبستين للاتجار الجنسي، وعلاقاتها الملتبسة مع كبار الساسة ورجال المال والأعمال. هذه القصة التي بدأت قبل عقدين لم تغلق بعد، بل تعود إلى الواجهة مع كل دفعة جديدة من الوثائق ومع كل تصريح غير محسوب.
إبستين: من ممول إلى رمز للفضيحة
جيفري إبستين لم يكن مجرد رجل أعمال ثري، بل شخصية ارتبط اسمها بشبكة علاقات واسعة مع سياسيين أمريكيين وأوروبيين، نجوم هوليوود، وحتى أفراد من العائلات المالكة. اتهاماته الجوهرية تمحورت حول إدارة شبكة لاستدراج واستغلال فتيات قاصرات، وتسهيل وصولهن إلى رجال نافذين.
رغم تواتر الشكاوى منذ أواخر التسعينات، استطاع إبستين الإفلات من العقاب بفضل تسويات قانونية مثيرة للجدل، أبرزها صفقة 2008 في فلوريدا التي وفرت له حصانة واسعة وأبقت كثيراً من الأسماء خارج دائرة الاتهام.
السقوط المفاجئ والوفاة الغامضة
في يوليو 2019، ألقت السلطات الفيدرالية القبض على إبستين مجدداً ووجهت له تهماً بالاتجار الجنسي. بدا حينها أن المحاكمة ستفتح ملفات شائكة وتمس شخصيات نافذة، لكن وفاته المفاجئة في زنزانته خلال أغسطس من العام نفسه، والتي وُصفت بأنها انتحار، وضعت حداً لفرصة الكشف العلني الكامل.
الوفاة التي جرت في ظروف غامضة أشعلت نظريات مؤامرة لا تزال تتردد حتى اليوم: هل كان انتحاراً أم عملية إسكات متعمدة لحماية شخصيات كبيرة؟
علاقة ترامب بإبستين: بين الود والقطيعة
ترامب نفسه لم ينكر معرفته بإبستين، بل وصفه عام 2002 بأنه "رجل رائع". الصور والفيديوهات التي جمعتهما في منتجعات بالم بيتش و"مار-إيه-لاغو" توثق صلة اجتماعية حقيقية.
لكن بحلول عام 2004، انفجرت الخلافات بين الرجلين — بعضها يتعلق بصفقة عقارية، وأخرى أكثر خطورة تتحدث عن تصرف "غير لائق" من إبستين تجاه ابنة أحد أعضاء نادي ترامب. هنا حدثت القطيعة العلنية، وتحوّل إبستين من "الصديق اللامع" إلى "الضيف غير المرغوب فيه".
تصريح جونسون: لماذا الآن؟
إعلان مايك جونسون أن ترامب كان "مخبراً للـFBI" لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق السياسي الحالي.
أولاً: يأتي في لحظة تتزايد فيها الدعوات لإصدار الملفات الكاملة لقضية إبستين، وهو ما قد يكشف أسماء نافذين في الحزبين.
ثانياً: يمثل محاولة واضحة لإعادة صياغة صورة ترامب من شخص عرف إبستين اجتماعياً إلى "منقذ ساعد في إسقاطه".
ثالثاً: يفتح الباب أمام سؤال أكبر: لماذا لم تصدر أي جهة رسمية – لا البيت الأبيض ولا الـFBI – تأكيداً أو نفياً لهذه المزاعم حتى الآن؟
شبكات القوة والملفات المختومة
القضية لا تتعلق بإبستين وحده، بل بشبكة معقدة من العلاقات. لوائح الرحلات الجوية لطائراته الخاصة، وسجلات ضيوفه في المنازل والمنتجعات، تكشف عن أسماء سياسيين ورجال أعمال من الصف الأول. كثير من هذه الوثائق بقي مختوماً لسنوات، بحجة حماية الخصوصية أو لعدم كفاية الأدلة.
لكن الضحايا الذين تقدموا بشكاوى يصرون على أن الكشف الكامل هو السبيل الوحيد لفهم مدى تغلغل شبكة إبستين، ولماذا أفلت طوال سنوات من العقاب.
اللافت أن قضية إبستين تحولت إلى أداة سياسية بامتياز. الديمقراطيون يضغطون للكشف الكامل معتبرين أن أي تواطؤ محتمل مع إبستين يجب أن يُفضح. الجمهوريون بالمقابل يحاولون الالتفاف على الملف عبر إعادة تصوير شخصياتهم الرئيسية، وعلى رأسهم ترامب، كأبطال في مواجهة إبستين لا كمتورطين محتملين.
وفي كل مرة يُفتح الملف، يتجدد الشك في نزاهة المؤسسات القضائية والأمنية الأمريكية التي سمحت لإبستين لعقود أن يتصرف دون حساب.
ما كشفه مايك جونسون قد يكون مجرد مناورة انتخابية، أو ربما إشارة إلى أسرار لم تُكشف بعد عن علاقة ترامب وأجهزة الدولة بإبستين. في كل الأحوال، القضية لا تزال بركاناً تحت الرماد: ضحايا يبحثن عن العدالة، مؤسسات تسعى لحماية سمعتها، وساسة يوظفون الفضيحة كورقة في صراع انتخابي محتدم.
وهكذا، تظل قضية إبستين مرآة تكشف أوجه التواطؤ، الفساد، والصراع على السلطة في قلب أمريكا.