في خطوة تعكس تحوّلاً جذرياً في تاريخ أحد أشهر المتاجر العالمية، تقدمت إدارة هارودز في لندن بطلب رسمي إلى السلطات المحلية لإزالة كافة الرموز والتماثيل التي تجسد شخصية مالكه السابق، الملياردير المصري الراحل محمد الفايد، والمعروف بلقب "الفرعون المصري". القرار جاء بعد تصاعد الغضب العام إثر سلسلة من الاتهامات بالاعتداء الجنسي كشفتها تحقيقات صحفية وأمنية، لتتحول القاعة المصرية الشهيرة داخل المتجر إلى بؤرة جدل أخلاقي وتاريخي.
من الوثائقي إلى التحقيقات الجنائية
أعادت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" في 2024 إشعال الجدل ببث فيلم وثائقي اتهم فيه أكثر من 20 موظفة سابقة في هارودز الفايد بالاعتداء عليهن خلال فترة إدارته للمتجر. وتوالت بعدها شهادات صادمة لتتوسع التحقيقات، حيث أعلنت شرطة لندن لاحقاً أنها تدرس ادعاءات ما يزيد عن 140 ضحية محتملة، بعضها يتعلق بحوادث وقعت في مواقع عدة:
مبنى شقق فاخرة يملكه الفايد في لندن.
فندق ريتز بباريس الذي كان ضمن ممتلكاته.
فيلا وندسور التاريخية التي استأجرها في العاصمة الفرنسية.
إحدى الشهادات أثارت صدمة خاصة للرأي العام، إذ تحدثت ناجية عن تعرضها للاعتداء وهي في الخامسة عشرة من عمرها، بينما كان الفايد قد بلغ 79 عاماً.
هارودز ينأى بنفسه: “مؤسسة مختلفة كلياً”
منذ بيع الفايد لمتجر هارودز إلى جهاز قطر للاستثمار عام 2010، سعى المالكون الجدد إلى إعادة صياغة صورة العلامة التجارية العريقة. وفي بيان رسمي، أعربت الإدارة الحالية عن “الفزع الشديد” من الاتهامات، مؤكدة أن المتجر بات اليوم “كياناً مغايراً تماماً” لما كان عليه تحت سيطرة الفايد بين 1985 و2010.
البيان شدد على أن التجديدات الجذرية ستطال القاعة المصرية الشهيرة، التي تضم السلم المتحرك المكون من خمسة طوابق و16 تمثالاً ضخماً تجسد وجه الفايد إلى جانب رؤوس مستوحاة من تمثال الملكة نفرتيتي. الإدارة وصفت هذه التماثيل بأنها أصبحت "تذكيراً بصرياً بجرائم مشينة".
تعويضات وضغوط قانونية متصاعدة
لا يقتصر الأمر على إزاحة الرموز، إذ أطلقت إدارة هارودز برنامجاً خاصاً لتعويض الناجيات، حيث التحقت به حتى الآن أكثر من 100 ناجية، يحصلن على استشارات قانونية إلى جانب تعويضات مالية.
وفي تطور لافت، قدم المتجر في يونيو الماضي طلباً إلى المحكمة العليا البريطانية لتعيين منفذين محترفين لإدارة تركة الفايد، ما يسمح بتقديم مطالبات مباشرة ضد ورثته، كما يتيح للمتجر نفسه المطالبة بمساهمة مالية في تغطية التعويضات التي يسددها حالياً.
إرث ثقيل بين مصر وبريطانيا
محمد الفايد، المولود في الإسكندرية عام 1929، بنى إمبراطورية اقتصادية واسعة تضمنت هارودز، فندق ريتز، وعدداً من الاستثمارات في أوروبا. ارتبط اسمه كذلك بعلاقات مثيرة للجدل أبرزها صلته بالأميرة ديانا ونجله دودي الفايد، الذي توفي معها في حادث سيارة مأساوي بباريس عام 1997.
لكن إرثه، الذي كان يوصف ذات يوم بالنجاح الباهر لرجل أعمال "مصري صعد من الصفر"، بات اليوم محاصراً بسلسلة اتهامات تلقي بظلال قاتمة على سمعته ومكانته.
أكتوبر موعد الحسم
الطلب المقدم من هارودز إلى مجلس كنسينغتون وتشيلسي يخضع حالياً للتقييم، وسط ترجيحات بالموافقة عليه بحلول 22 أكتوبر المقبل. وإذا ما تم التصديق، فستبدأ عملية إعادة تطوير السلالم المصرية والقاعة الداخلية لإزالة آخر المظاهر التي ارتبطت باسم الفايد.
القضية لا تتعلق بمجرد تجديد معماري في متجر فاخر، بل تمثل محاولة مؤسسية لتفكيك إرث رجل أعمال ارتبط اسمه بالفضائح، في مشهد يجسد التوتر بين الذاكرة التاريخية والعدالة للضحايا. وبينما تنتظر لندن القرار النهائي، يظل السؤال الأهم: هل يمكن إزالة آثار الفايد المادية بسهولة، فيما يستمر إرثه المعنوي والجدلي في ملاحقة ذاكرة هارودز والمجتمع البريطاني لعقود قادمة؟
قضية هارودز ومحمد الفايد تكشف عن صراع معقد يتجاوز مجرد إزالة تماثيل أو إعادة تصميم قاعة تجارية، فهي تعكس معركة على الذاكرة التاريخية وكيفية التعامل مع إرث شخصيات مثيرة للجدل.
في السياق الغربي، شهدنا خلال السنوات الأخيرة موجات مشابهة من “إزالة الرموز”: إسقاط تماثيل قادة استعماريين في بريطانيا، أو مسح أسماء رجال ارتبطوا بالعبودية من الجامعات الأميركية. هذه التحركات لا تعبّر فقط عن رغبة في العدالة للضحايا، بل تحمل دلالات أعمق حول إعادة كتابة التاريخ الرسمي بما يتماشى مع قيم الحاضر.
محمد الفايد، الذي صعد من أصول متواضعة في الإسكندرية إلى قمة هرم الاقتصاد البريطاني، ثم ارتبط اسمه بالأميرة ديانا، كان نموذجاً لرجل أعمال “نجح في اختراق النخبة البريطانية”. لكن اليوم، مع تصاعد شهادات الاعتداءات، يتحوّل هذا الإرث إلى عبء، ويصبح المتجر الذي كان يرمز إلى سلطته مطالباً بمحو بصمته كي يحافظ على مكانته العالمية.
سياسياً وثقافياً، نحن أمام لحظة إدانة للمشاهير ورموز المال الذين أفلتوا لعقود من المحاسبة بفضل النفوذ والثراء. القضية تضع هارودز – كمؤسسة تجارية وثقافية – في قلب اختبار: هل يكتفي بالعدالة الرمزية عبر إزالة التماثيل، أم يسهم في بناء سردية جديدة تقر بالجرائم وتضمن أن تبقى الذاكرة الجماعية يقظة أمامها؟
في النهاية، المسألة لا تتعلق بالفايد وحده، بل تندرج ضمن نقاش عالمي حول دور المؤسسات في مواجهة ماضيها: هل تتبنى سياسة "النسيان" عبر محو الرموز، أم "التذكّر النقدي" الذي يضع التاريخ بكل تناقضاته أمام أعين الأجيال المقبلة؟