الحرب الجارية في قطاع غزة ليست صراعًا عسكريًا عاديًا، بل امتداد لصراع طويل يمتد لأكثر من قرن، بدأ بمقاومة الاستعمار البريطاني ثم الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. الصراع يحمل أبعادًا إستراتيجية متعددة، تشمل البعد الاستعماري، إذ تمثل إسرائيل امتدادًا للاستعمار الغربي في المنطقة، والبعد الديني والحضاري الذي يظهر في سياسات وخطاب اليمين الإسرائيلي والغربي، إضافة إلى صراع الشرعية الدولية والدعم العالمي.
بقاء إسرائيل مرتبط بشكل جوهري بالدعم الدولي، وبتقبل البيئة المحيطة بها أو رفضها. فالضغط الإقليمي والدولي اليوم يشكل مؤشرًا واضحًا على تغير موازين القوى، بعد سنوات طويلة من الهيمنة العسكرية والسياسية.
فلسطين جوهر الصراع الإقليمي
وفق المؤرخ الأميركي باري بوزان وأستاذ العلاقات الدولية أولي ويفر، في كتابهما "المناطق والقوى: هيكل الأمن الدولي"، القضية الفلسطينية تعد استثناءً فريدًا في الشرق الأوسط. فالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني ليس مجرد نزاع محلي، بل مفتاح لفهم الصراع الإقليمي بأكمله، ويشبه إلى حد كبير الصراع في جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري، إذ يمتد تأثيره على المنطقة كلها.
وقد أكسب وقوع القدس ثالث أقدس المواقع الإسلامية القضية الفلسطينية دعمًا شعبيًا وسياسيًا أوسع، فيما ساهم تداخل التيارات القومية والإسلامية ومعاداة الصهيونية في تعزيز التأثير الإقليمي للقضية، وجعلها محورًا لتحديد المواقف السياسية بين الحكومات والشعوب.
تعزيز موقع الاحتلال كعدو
حرب غزة المستمرة جعلت إسرائيل تُصنف كعدو للشعوب العربية والإسلامية، وأدى ذلك إلى تعزيز المواقف الثقافية والسياسية ضدها، بما في ذلك مقاطعة المنتجات الإسرائيلية والشركات الداعمة لها. هذا التغيير الثقافي يعكس وعيًا جماعيًا متزايدًا بطبيعة الصراع وأبعاده الاقتصادية والسياسية.
تقهقر الشرعية الدولية لإسرائيل
على الصعيد الدولي، زادت عزلة إسرائيل، حتى في الدول الداعمة لها تاريخيًا، مثل فرنسا وبريطانيا. كما أظهرت القوى الكبرى مثل الصين وروسيا رفضها لتصعيد الاحتلال، بينما عجزت الولايات المتحدة عن مواجهة الغالبية الدولية في مجلس الأمن، التي صوتت مرتين على وقف الحرب بأغلبية 14 دولة مقابل موقف أميركي وحيد. استطلاعات الرأي تظهر تزايد النظرة السلبية لإسرائيل في معظم دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
سلوك إقليمي متوجس من الاحتلال
التهديد الإسرائيلي دفع الدول العربية والإقليمية لتعزيز قدراتها الدفاعية. تركيا فرضت قيودًا اقتصادية على إسرائيل، بينما مصر عززت وجودها العسكري في سيناء. سوريا تراقب تحركات الاحتلال بدقة، وسلطت السعودية الضوء على خطورة المسار الإسرائيلي على فكرة السلام مع الفلسطينيين. حتى الأردن بدأ يظهر قلقه من التوسع الإسرائيلي في الضفة الغربية، في ظل خطاب رسمي يتحدث عن "إسرائيل الكبرى".
هزيمة إستراتيجية محتملة
تحليل تداعيات الحرب يظهر أن السياسات الإسرائيلية الوحشية تسهم في هزيمة إستراتيجية محتملة، من خلال تعزيز الرفض العالمي لها ودعم المقاومة الفلسطينية بمختلف الوسائل. فكل هجوم يركز على المدنيين يعزز موقف المقاومة ويزيد من عزلة الاحتلال دوليًا. كما أشار وزير الدفاع الأميركي السابق، لويد أوستن، إلى أن استهداف المدنيين قد يحول النصر التكتيكي إلى هزيمة استراتيجية لإسرائيل على المدى الطويل.
في النهاية، تعكس الحرب الحالية في غزة أن أي محاولة إسرائيلية لتأكيد هيمنتها العسكرية والسياسية تواجه تحديات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، وأن مستقبلها الاستراتيجي مرتبط مباشرة بردود الفعل العالمية والإقليمية، بالإضافة إلى القدرة الفلسطينية على الصمود والمقاومة، مما يجعل نتائج هذا الصراع أكثر تعقيدًا وخطورة على المدى الطويل.