في الضفة الغربية، حيث يتجدد الاستيطان الإسرائيلي بأشكال وأساليب متغيرة، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة جديدة عُرفت باسم "فتيات التلال". هذه المجموعات النسائية الشابة، التي تخلت عن المدارس والحياة المدنية لتعيش في خيام بدائية على قمم الجبال، تبدو في ظاهرها مشروعًا فرديًا "روحانيًا" أو "زاهدًا"، لكنها في جوهرها تمثل مرحلة متقدمة من الاستيطان الناعم الذي يهدف إلى تثبيت وقائع على الأرض تمهيدًا لـ"إسرائيل الكبرى".
الجذور التاريخية للاستيطان الزاحف
الظاهرة ليست جديدة، بل امتداد لمسار استيطاني بدأ منذ السبعينيات حين شجعت الحكومات الإسرائيلية، خاصة بقيادة حزب "الليكود"، إقامة مستوطنات صغيرة في الضفة الغربية ضمن ما عُرف بسياسة "خلق الحقائق على الأرض". وفي عام 1998، تأسست حركة "فتية التلال" بدعم مباشر من وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون، الذي دعا علنًا إلى الاستيلاء على كل تلة في الضفة. الفكرة كانت بسيطة وفعالة: وضع خيمة أو منزل متنقل فوق تلة، ثم تحويل النقطة الصغيرة مع الوقت إلى بؤرة استيطانية، وبعدها إلى مستوطنة معترف بها.
النسخة النسائية: الوجه "الناعم" للاستيطان
ما يحدث اليوم هو تطوير لهذه الإستراتيجية، حيث جرى استبدال صورة المستوطن المسلح بصورة فتاة شابة تعيش حياة بسيطة في الطبيعة. هذه الصورة تحمل رسالة مزدوجة: إخفاء الطابع العنيف للاستيطان من جهة، وإضفاء شرعية "اجتماعية وأخلاقية" على المشروع من جهة أخرى. شهادات المستوطنات أنفسهن تكشف عن أهداف أوسع بكثير، حيث يتحدثن صراحة عن "إسرائيل الكاملة" التي تمتد جغرافيًا إلى مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وحتى الجزيرة العربية.
آلية التوسع: من نقطة رعوية إلى مستوطنة متكاملة
أحد الأمثلة البارزة هو بؤرة "ماعوز إستير"، التي بدأت عام 2007 كمجموعة خيام بدائية، ثم تحولت تدريجيًا إلى مستوطنة يسكنها اليوم أكثر من 17 عائلة ونحو 50 طفلًا. بؤرة أخرى هي "أور أهوفيا" التي أسستها فتيات عام 2023 قرب مستوطنة "عوفرا"، وتهدف إلى ربط نفسها بأكثر من 20 بؤرة صغيرة لتشكيل تجمع استيطاني ضخم. هذه العملية ليست عشوائية، بل تقوم على إستراتيجية متكاملة: البدء بنقطة رعوية، ثم إدخال بنية تحتية تدريجية (طرق، ماء، كهرباء)، وصولًا إلى مستوطنة معترف بها رسميًا.
الدعاية الرقمية: استيطان عبر الشاشات
إدراكًا لقوة العصر الرقمي، تعتمد "فتيات التلال" بشكل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لمشروعهن. تُنشر مقاطع فيديو قصيرة تحمل شعارات مثل "نصنع النصر"، تُظهر الفتيات وهن يطبخن أو ينشرن الغسيل، في محاولة لتسويق الاستيطان كحياة طبيعية عائلية. هذا الخطاب يستهدف كسر الصورة النمطية للمستوطن العنيف، وتحويل الاستيطان إلى خيار "اجتماعي" يمكن للشباب والفتيات الانضمام إليه.
الغطاء السياسي والقانوني
الدعم الرسمي لهذه الظاهرة واضح. فقد زار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مستوطنة "عوفرا" المجاورة للاحتفال بمرور 50 عامًا على تأسيسها، في رسالة سياسية تؤكد شرعية هذه البؤر. وعلى المستوى القانوني، يعمل الكنيست على تمرير قوانين تمنح اليهود حق شراء الأراضي في الضفة الغربية بلا قيود، وهو ما يعني عمليًا تكريس الاستيطان كأمر واقع حتى في حال أي اتفاق سياسي مستقبلي.
المسرحية القانونية والهدم الشكلي
على الرغم من أن الشرطة الإسرائيلية تنفذ أحيانًا عمليات تفكيك لبعض البؤر أمام الكاميرات، إلا أن منظمات حقوقية مثل "بتسيلم" تعتبرها "مسرحيات" مكررة، حيث تعود الفتيات لإعادة البناء فور انسحاب القوات. هذا السلوك يكشف ازدواجية في التعامل: من جهة تظهر إسرائيل بمظهر الدولة التي تحترم القانون، ومن جهة أخرى تدعم بشكل مباشر استمرار البؤر عبر الجيش والإدارة المدنية.
الموقف الفلسطيني والدولي
في المقابل، تصف وزارة الخارجية الفلسطينية هذه السياسات بأنها "تصفية ممنهجة للقضية الفلسطينية"، فيما تؤكد الأمم المتحدة أن جميع أشكال الاستيطان في الضفة الغربية غير قانونية وتشكل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. ومع ذلك، يظل رد الفعل الدولي محدودًا، مقابل توسع استيطاني متسارع منذ هجوم 7 أكتوبر 2023.
ظاهرة "فتيات التلال" ليست مجرد مغامرة فردية لفتيات متمردات، بل هي امتداد مدروس لسياسات إسرائيلية قديمة بوجه جديد. الاستيطان اليوم لم يعد يحتاج إلى الجندي المدجج بالسلاح، بل يمكن أن يُقدَّم بوجه أنثوي بسيط يوحي بالبراءة والزهد. لكن النتيجة واحدة: ابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية، وتفتيت الجغرافيا لصالح مشروع "إسرائيل الكبرى"، بما يجعل أي حديث عن حل الدولتين أو دولة فلسطينية قابلة للحياة أقرب إلى الوهم.
من "غوش إيمونيم" إلى "فتيات التلال"
الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية مر بمراحل واضحة منذ عام 1967. البداية كانت بمستعمرات مثل "غوش إيمونيم"، التي أسسها المستوطنون اليهود المتدينون على أراض فلسطينية قرب القدس الشرقية، واعتمدت أساسًا على الشباب المتحمس والروابط الدينية الصلبة لدعم الاستيطان. كان الهدف آنذاك إقامة مستوطنات صغيرة تعزز السيطرة على الأرض، لكنها بقيت محدودة نسبيًا بسبب الاعتماد على الدولة في الدعم العسكري والسياسي.
مع مرور السنوات، وتحديدًا في التسعينيات، ظهرت حركة "فتية التلال" التي أسست بؤرًا صغيرة على قمم الجبال، مبتكرة أسلوبًا يعتمد على التمدد التدريجي وتحويل نقاط رعوية إلى مستوطنات معترف بها رسميًا. أما اليوم، فإن "فتيات التلال" تمثل نسخة متطورة من هذا النموذج: نساء يتركن الحياة المدنية ويقدمن الاستيطان بوجه "ناعم" يُسوَّق إعلاميًا كحياة طبيعية وعائلية، مع غطاء قانوني وسياسي مباشر، مما يجعل السيطرة على الأراضي الفلسطينية أكثر ثباتًا وعمقًا، ويبرز التحول من الاستيطان العسكري المباشر إلى استيطان استراتيجي شامل يمزج بين السياسة، الإعلام، والثقافة.