في شوارع غزة المدمرة تنتظر آلاف العائلات خبراً عن أبنائها الذين اختفوا منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023. الأمهات يحملن صور أبنائهن، الزوجات يبحثن في قوائم غير مكتملة، والأطفال يسألون عن آبائهم فلا يجدون جواباً. هذا المشهد الإنساني يكشف الوجه الأكثر قسوة للاختفاء القسري، حيث يتحول الفقد إلى عذاب يومي لا ينتهي، ويصبح الصمت الإسرائيلي الرسمي سلاحاً مضاعفاً ضد العائلات.
شرعنة للتعذيب تحت غطاء القانون:
كشف نادي الأسير الفلسطيني عن تصاعد جرائم الإخفاء القسري بحق الآلاف من أبناء غزة منذ بدء الحرب، متهماً القضاء الإسرائيلي بترسيخ هذه الجريمة عبر قوانين وتشريعات صيغت لخدمة سياسات الاحتلال. وأوضح أن أبرز أدوات الشرعنة يتمثل في قانون "المقاتل غير الشرعي" الذي أُقر عام 2002، وعدّل مع بداية الحرب على غزة ليمنح سلطات الاحتلال غطاءً قانونياً لاحتجاز الفلسطينيين بمعزل عن العالم الخارجي. وأكد النادي أن هذه الممارسات شكّلت الحاضنة الأبرز لجرائم التعذيب المروعة بحق معتقلي غزة، وأدت إلى استشهاد العشرات منهم، في ظل دور قضائي يعزز الجريمة بدلاً من وقفها.
إحصائيات صادمة لما بعد الاجتياح البري:
المعطيات التي خرجت إلى العلن تكشف حجم المأساة. فقد أكد نادي الأسير أن نحو ألفين وثلاثمئة وثمانية وسبعين فلسطينياً من غزة جرى تصنيفهم كمقاتلين غير شرعيين منذ نهاية 2023، وأن ستة وأربعين معتقلاً على الأقل قضوا تحت التعذيب أو الإهمال الطبي بعد التعرف على هوياتهم. أما إجمالي الوفيات داخل السجون الإسرائيلية منذ بداية الحرب فبلغ سبعة وسبعين معتقلاً في ظروف ترتبط مباشرة بجرائم الاختفاء والتعذيب. وفي الوقت نفسه تحدثت تقارير حقوقية دولية عن أكثر من ثلاثة عشر ألف مفقود في غزة، غالبيتهم اختفوا خلال الاجتياحات البرية، وسط غياب أي معلومات رسمية عن مصيرهم، ما يعكس حجم الضبابية التي تفرضها إسرائيل ويؤكد أن الحقيقة ما زالت بعيدة عن متناول العائلات.
شخصيات بارزة بين المفقودين:
لم تتوقف حالات الاختفاء القسري عند المدنيين، إذ طالت شخصيات عامة وقيادات محلية ونشطاء بارزين. بعض مسؤولي البلديات في شمال غزة اعتقلوا أثناء عملهم الإغاثي وانقطعت أخبارهم، فيما أشارت تقارير حقوقية إلى أن عدداً من الناشطين في المجالين الإعلامي والإغاثي اختفوا بعد احتجازهم على الحواجز الإسرائيلية. شهادات متقاطعة أكدت أيضاً أن أطباء وممرضين اختفوا بعد اجتياح المستشفيات، ليظل مصيرهم مجهولاً. هذه الحالات تظهر أن الاختفاء القسري سياسة ممنهجة تستهدف البنية المجتمعية بأكملها.
جريمة دولية مع سبق الإصرار:
بحسب تعريف الأمم المتحدة، فإن الاختفاء القسري هو القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم مع رفض الكشف عن مصيرهم أو أماكن وجودهم، ويعتبر جريمة ضد الإنسانية عندما يمارس بشكل واسع أو ممنهج. في غزة تتوافر كل عناصر الجريمة: من الاعتقال القسري إلى الإنكار الرسمي للمصير والحرمان الشامل من الحماية القانونية. تغطية المحاكم الإسرائيلية لهذه الممارسات تمثل دليلاً إضافياً على أنها سياسة دولة ممنهجة وليست تجاوزات فردية.
المجتمع الدولي بين العجز والتواطؤ:
رغم وضوح الانتهاكات ظل الموقف الدولي أسير البيانات الدبلوماسية. نادي الأسير جدد مطالبه للمنظومة الحقوقية الدولية بضرورة تجاوز حالة العجز المستمرة أمام حرب الإبادة، داعياً إلى قرارات حاسمة لمحاسبة دولة الاحتلال ووقف عدوانها الشامل. غير أن الواقع يكشف عن تردد المجتمع الدولي في مواجهة إسرائيل لأسباب سياسية تتعلق بالدعم الغربي لها، الأمر الذي يعمّق معاناة الضحايا ويترك عائلات المفقودين في مواجهة آلة حرب لا تخضع لأي مساءلة.
غزة كسجن مفتوح:
غزة اليوم أشبه بسجن كبير، يعيش سكانها محاصرين براً وبحراً وجواً، فيما يحتجز آلاف المعتقلين في أماكن مجهولة بلا تواصل مع العالم الخارجي. هذا الواقع يحوّل الاختفاء القسري إلى أداة لإحكام السيطرة، حيث يصبح الخوف من المصير المجهول سلاحاً نفسياً يضاف إلى الحصار والدمار.
جرح مفتوح لا يندمل:
الإجابة عن سؤال العنوان تكمن في مزيج من السياسات الإسرائيلية الممنهجة الهادفة إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني، والغطاء القانوني الذي يشرعن الجريمة، والصمت الدولي الذي يترك العائلات وحدها في مواجهة المجهول. إلى أن يتحقق تدخل دولي جاد سيظل هذا الجرح مفتوحاً، وستبقى صور المفقودين شاهداً على واحدة من أبشع الجرائم التي يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين.