تشهد الساحة العراقية تحولات عسكرية وسياسية هامة، مع بدء إعادة تموضع القوات الأميركية ضمن البلاد، في خطوة تعكس إعادة تقييم الاستراتيجية الأميركية والتحالف الدولي على ضوء التحديات الأمنية الإقليمية.
ويُنظر إلى هذه التحركات على أنها انتقال من مرحلة القتال المباشر ضد تنظيمات إرهابية إلى مرحلة تقديم الدعم الاستشاري واللوجستي للقوات العراقية، بما يضمن استقرار البلاد دون الانخراط المباشر في صراعات جديدة.
تجسد هذه التحركات بشكل واضح إخلاء قاعدة عين الأسد الجوية في الأنبار وبعض المقرات في بغداد، حيث رُصد تفكيك نقاط المراقبة والمقار الإدارية والمستودعات العسكرية، وتحرك قوافل شاحنات تحمل معدات ومستلزمات عسكرية بين القواعد، من بينها نقل معدات من عين الأسد نحو إقليم كردستان وسوريا.
كما لوحظ هبوط طائرات شحن عسكرية عدة مرات لنقل المعدات الثقيلة، فيما بدأ عدد العسكريين الأميركيين في الانخفاض بشكل ملحوظ.
ويرى مراقبون أن هذه التحركات لا تعني انسحابًا كاملًا، بل إعادة تموضع تكتيكي مدروس، يستهدف التكيف مع التحولات الإقليمية، خصوصًا في ظل التوتر المستمر بين إسرائيل وإيران، وإعادة توجيه الموارد العسكرية إلى أماكن استراتيجية تسمح بمراقبة تهديدات محتملة دون تكبد أعباء العمليات المباشرة.
الخلفيات التاريخية:
يعود الوجود العسكري الأميركي في العراق إلى عام 2003م، حين غزت القوات الأميركية البلاد وأطاحت بنظام صدام حسين، لتبدأ مرحلة جديدة من التدخل العسكري والسياسي أدت إلى إعادة تشكيل المشهد العراقي بالكامل، خلال السنوات الأولى، انخرطت القوات الأميركية في عمليات قتال مباشر ضد الجماعات المسلحة، وواجهت تحديات أمنية مركبة نتيجة ظهور تنظيمات إرهابية، أبرزها تنظيم الدولة الإسلامية لاحقًا.
بعد إعلان القضاء على التنظيم عام 2017، بدأت الولايات المتحدة وإيران والدول المجاورة تعديل حضورها العسكري والسياسي في العراق، حيث ركزت واشنطن على تقديم الدعم الاستخباري والتدريب للقوات العراقية، مع تقليص العمليات القتالية المباشرة.
وتعد المرحلة الحالية امتدادًا لهذه الديناميكية، حيث تسعى القوات الأميركية للتحول من "القوة القتالية" إلى "الشريك الاستراتيجي"، مع التركيز على التدريب، والمراقبة الجوية، والتخطيط الاستخباري، لضمان ألا تنشأ فجوات أمنية يمكن أن تستغلها التنظيمات المسلحة أو القوى الإقليمية.
ويرى مراقبون أن هذا التحول يعكس أيضًا تجربة الولايات المتحدة في صراعات سابقة في العراق وأفغانستان، حيث أثبتت التجربة أن الوجود العسكري المباشر طويل الأمد قد يرهق الموارد ويثير توترات سياسية محلية، بينما يُتيح الدعم الاستشاري واللوجستي القدرة على الحفاظ على النفوذ مع تقليل المخاطر المباشرة.
القدرات والتحديات الحالية:
رغم قدرة القوات العراقية على إدارة معظم المهام الأمنية على الأرض، إلا أن البلاد لا تزال تعاني نقصاً في أنظمة الدفاع الجوي والطائرات الحديثة، مما يجعلها بحاجة مستمرة للدعم الجوي والاستخباري من التحالف الدولي، ويظل خطر عودة تنظيم الدولة قائمًا، حيث لا تزال بعض المناطق الحدودية مكشوفة نسبيًا أمام النشاطات الإرهابية، خصوصًا في الشمال والغرب.
ويرى مراقبون أن الانقسام السياسي الداخلي يعقد المشهد: بعض القوى تطالب بالانسحاب الكامل للقوات الأجنبية لتعزيز السيادة الوطنية، فيما ترى جهات أخرى ضرورة استمرار الدعم لتجنب أي فراغ أمني، خصوصًا مع تهديدات محتملة من وجود القوات التركية شمال البلاد، أو تنظيمات إرهابية قد تحاول استغلال أي ضعف أمني.
السيناريوهات المحتملة:
تطرح التحركات الحالية عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل الوجود الأميركي:
السيناريو الأول: انسحاب تدريجي وسلس للقوات الأجنبية، مع قدرة القوات العراقية على ملء الفراغ الأمني بنجاح دون ثغرات كبيرة.
السيناريو الثاني: انخفاض مستوى الدعم الجوي والاستخباري، ما يترك ثغرات أمنية قد تستغلها خلايا إرهابية أو دول إقليمية.
السيناريو الثالث: انسحاب سريع يترك فجوات كبيرة في الجدار الأمني، مما قد يشجع تنظيم الدولة وتنظيمات أخرى على تصعيد نشاطها، بما قد يعيد البلاد إلى أجواء النزاع المسلح مجددًا.
ويرى مراقبون أن أي من هذه السيناريوهات قد يفاقم حدة الصراع داخل دوائر صنع القرار العراقي، وقد يؤدي إلى توترات مجتمعية وأمنية إذا لم تُعزَّز القدرات الدفاعية والاستخباراتية المحلية بشكل متزامن.
شراكة جديدة واستراتيجية طويلة المدى:
تشير التحركات الأخيرة إلى تحول نوعي في الشراكة بين العراق والتحالف الدولي، بحيث يتركز دور القوات الأجنبية على الدعم الاستشاري والتدريبي، مع استمرار الحضور الدبلوماسي الأميركي في بغداد. ويؤكد مراقبون أن هذا التطور يعكس رغبة العراق في استعادة دوره الإقليمي والدولي، بينما تسعى الولايات المتحدة لتجنب الانخراط المباشر في صراعات جديدة، بما يتماشى مع سياستها الخارجية الحالية.
ويأتي هذا التحول بعد اتفاق سابق بين بغداد وواشنطن يحدد موعدًا لإنهاء مهمة التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة، مع الحفاظ على آليات التعاون في مجالات التدريب والاستخبارات والدعم اللوجستي، بما يتيح للعراق القدرة على حماية أمنه الداخلي دون الانغماس في الصراعات الإقليمية.