لبنان بين سندات المودعين وخطة نزع سلاح حزب الله: أزمة مالية وسيادية متشابكة

2025.09.01 - 02:43
Facebook Share
طباعة

أعاد وزير المالية اللبناني ياسين جابر، بتصريحاته لقناة "العربية الحدث"، تسليط الضوء على جوهر الأزمة اللبنانية المتشابكة ماليًا وسياسيًا. فحديثه عن معالجة أموال المودعين عبر منحهم سندات بدلًا من استرداد ودائعهم نقدًا، ترافق مع إشارته إلى مشاركته في جلسة حكومية مقبلة لإقرار خطة نزع سلاح حزب الله، في تزامن يختزل معضلة لبنان المزدوجة: الانهيار الاقتصادي وفقدان الدولة لاحتكار القرار السيادي.


سندات بدل الأموال

أكثر من 80 مليار دولار عالقة بين البنوك اللبنانية ومصرف لبنان، فيما يستحيل على أي نظام مصرفي، بحسب جابر، إعادة الأموال دفعة واحدة. الحل المطروح هو منح المودعين سندات، ما يعني فعليًا تحويل ودائعهم إلى أدوات دين طويلة الأجل، في خطوة ستثير جدلاً واسعًا حول العدالة والمخاطر.

الجمعية المصرفية اللبنانية تبحث التعاقد مع شركات استشارية مثل "ألفاريز ومارسال" و"أنكورا" لقيادة المفاوضات مع المصرف المركزي، بعد تعثر محاولات سابقة منذ تخلف لبنان عن سداد سندات "اليوروبوندز" عام 2020. انهيار الهندسة المالية عام 2019 كشف عجز الدولة والمصارف عن حماية الودائع، وأدخل البلاد في نزاع مالي لم يجد طريقه للحل حتى اليوم.

 

"القرض الحسن": عقدة إضافية في النظام المالي

أشار الوزير إلى أن المصرف المركزي يحاول معالجة ملف مؤسسة "القرض الحسن"، الذراع المالية لحزب الله. المؤسسة، التي تقدم نفسها كجمعية خيرية وتملك عشرات الفروع في الضاحية الجنوبية والبقاع والجنوب، تخضع لعقوبات أمريكية منذ 2007 وتعد قناة مالية موازية خارج الرقابة المصرفية التقليدية.

منع المصرف المركزي أي تعامل رسمي معها في يوليو الماضي يعكس الضغوط الدولية المتزايدة، لكنه في الوقت نفسه يضع الدولة أمام تحدي موازنة بين متطلبات المجتمع الدولي وبين نفوذ حزب الله في الداخل.


من الأزمة المالية إلى ملف السلاح

إعلان وزير المالية ياسين جابر مشاركته في جلسة حكومية مخصصة لإقرار خطة نزع سلاح حزب الله، يكشف بوضوح عن الترابط العميق بين الأزمة الاقتصادية التي تضرب لبنان منذ سنوات، وبين ملف السيادة الذي ظل مؤجلاً منذ اتفاق الطائف. فالمجتمع الدولي – من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي – لم يعد ينظر إلى لبنان كحالة مالية منفصلة، بل كدولة مأزومة على المستويين: المالي والسياسي.
الرسالة واضحة: أي خطة إنقاذ، أو ضخ أموال دولية، أو عودة للاستثمارات العربية، لن تتم من دون شرطين متلازمين:

1. تنفيذ إصلاحات اقتصادية شاملة تعيد هيكلة القطاع المصرفي وتكافح الفساد.


2. حصر السلاح بيد الدولة، بما ينهي ازدواجية القرار السياسي والعسكري.

 

هذا الربط يعني أن المودعين الذين ينتظرون استرداد ودائعهم لن يروا أي حلّ ملموس ما لم يُحسم ملف السلاح. فاستعادة الثقة المالية تمرّ عبر إعادة تعريف حدود الدولة، أي أن الإنقاذ الاقتصادي رهينة المعادلة الأمنية – السياسية مع حزب الله.

 

البعد الإقليمي والدولي

المعادلة لا تخص الداخل اللبناني وحده، بل تنسحب مباشرة على الساحة الإقليمية والدولية:

الولايات المتحدة: تمارس ضغوطًا متزايدة من خلال العقوبات على "القرض الحسن"، وتربط أي مساعدة مالية أو دعم سياسي للبنان بقدرته على فرض سيادته الكاملة.

الخليج العربي: يربط عودة الاستثمارات إلى لبنان بتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، وبتوفير ضمانات قضائية وقانونية تحمي رؤوس الأموال من الضياع أو الفساد.

المجتمع المالي الدولي: يرفض الدخول في أي خطة إنقاذ من دون رؤية إصلاحات جذرية وضمانات سيادية واضحة، ما يجعل الدعم الخارجي مشروطًا بإعادة هيكلة الدولة ككل.


بهذا المعنى، الحكومة اللبنانية تجد نفسها أمام معادلة قاسية: إما التقدم في نزع سلاح حزب الله وإصلاح النظام المالي، أو البقاء في عزلة إقليمية ودولية، مع استمرار الانهيار وفقدان ما تبقى من الثقة الشعبية.

 

عقد المودعين وسنداتهم

حلّ السندات الذي طرحه وزير المالية قد يخفف من الضغط المباشر على البنوك، لكنه يفتح الباب على أسئلة صعبة: هل يمكن فعليًا استعادة ثقة المودعين إذا تحولت ودائعهم إلى أوراق دين طويلة الأجل؟ بالنسبة لكثيرين، هذا الطرح قد يُقرأ كـ"قص شعر" للودائع بطريقة ملتوية، لا كحل عادل يعيد الأموال.
إضافة إلى ذلك، غياب أي خطة شاملة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي يجعل هذه الخطوة أقرب إلى إدارة أزمة بدلًا من تقديم حل نهائي.

 


"القرض الحسن": اقتصاد موازٍ وسلطة موازية

وجود مؤسسة "القرض الحسن" يكشف عمق المعضلة: فالمؤسسة التي تعمل كجمعية خيرية وتقدم قروضًا وفق الشريعة الإسلامية، تمثل في نظر الولايات المتحدة شبكة مالية لحزب الله، بينما تراها بيئته الحاضنة كبديل عن المصارف الرسمية المنهارة.
هذا الازدواج يفضح ضعف الدولة في ضبط النظام المالي ويعكس ازدواجية اقتصادية تشبه تمامًا الازدواجية الأمنية. فالبلاد تقف أمام قطاع مصرفي رسمي عاجز ومنهار، وقطاع موازٍ مرتبط بحزب سياسي يملك السلاح والنفوذ.

 

خطة نزع السلاح: بين الواقعية والاشتراطات الدولية

خطة نزع سلاح حزب الله، رغم إعلانها على جدول أعمال الحكومة، لا تبدو قابلة للتنفيذ في المدى القريب. فالتوازنات الداخلية المعقدة تجعل أي مساس بسلاح الحزب مسألة صعبة، خصوصًا في ظل غياب توافق وطني جامع. ومع ذلك، فإن المجتمع الدولي يضع هذا الملف شرطًا أساسيًا لإنقاذ لبنان، ما يجعل الدولة أمام شرط وجودي: إما المضي نحو السيادة الكاملة، أو مواجهة عزلة مالية واقتصادية قاتلة.

 


منذ انهيار النظام المالي عام 2019، خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، تبخرت مدخرات المواطنين، وأُغلقت أبواب المصارف أمام المودعين. الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت آنذاك كشفت عمق السخط على الطبقة السياسية، لكن رغم مرور أكثر من خمس سنوات، لم تُتخذ أي خطوات جذرية تعيد الثقة أو تضع البلاد على سكة الإنقاذ.
اليوم، وبعد تراكم الأزمات، بات واضحًا أن الحل لن يكون ماليًا فقط، بل يحتاج إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والسلاح، وبين النظام المصرفي والاقتصاد الموازي. لبنان يقف أمام مفترق تاريخي: إما ولادة دولة جديدة تملك قرارها المالي والسياسي، أو استمرار الدوران في حلقة الانهيار والعجز.

 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 1