في قلب أزمة لبنانية متشابكة، تقف الدولة أمام اختبار سيادي بالغ الحساسية: ملف نزع سلاح "حزب الله". فبين ضغوط دولية متصاعدة، ومطالبات داخلية بفرض سيادة الدولة، يقف لبنان مهددًا بالانزلاق إلى مواجهة داخلية قد تعيد شبح الحرب الأهلية. القرار الحكومي الأخير بعدم المضي في دعم نزع السلاح كشف عن توازن هش بين متطلبات الاستقرار وضرورات السيادة، في وقت يزداد فيه الانهيار الاقتصادي والاهتراء السياسي.
الحكومة اللبنانية، بحسب ما أكده العقيد المتقاعد جاك نيريا في تحليله عبر Jerusalem Center for Public Affairs، لم تتراجع عن نزع سلاح حزب الله طوعًا، بل بفعل ضغوط مباشرة من الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل). تصريحات نيريا، المنشورة في دراسة سياسية مطلع سبتمبر 2025، اعتبرت أن بقاء سلاح الحزب ليس شأنًا داخليًا فحسب، بل امتدادًا لمشروع إيراني يرسخ نفوذ طهران من الخليج حتى المتوسط.
في المقابل، خرج قادة من حزب الله عبر الإعلام بتصريحات تحدٍ، أبرزها تحذيرات ناصر قسّام (نائب الأمين العام)، الذي توعّد بأن أي محاولة لنزع السلاح ستُواجَه باعتبارها "معركة كربلائية"، في إشارة رمزية تعبّر عن استعداد الحزب لاعتبار المواجهة معركة وجودية.
حسابات الدولة اللبنانية
قرار بيروت بالتراجع عن المواجهة المباشرة عكس قناعة لدى النخبة السياسية أن الدخول في معركة مع حزب الله الآن يعني تفجير الداخل اللبناني. لذلك، تحاول الحكومة السير على حافة التوازن: إرسال إشارات للخارج بأنها تتحرك في اتجاه "إصلاح السيادة"، بينما في الداخل تُجنّب نفسها مواجهة مسلحة قد لا تملك مقومات حسمها.
هذا الموقف أثار ارتباكًا في العواصم المعنية. واشنطن رحّبت بأي خطوة نحو تحجيم الحزب لكنها اعتبرت التراجع اللبناني مؤشرًا على هشاشة مؤسسات الدولة. أما طهران، فقد اعتبرت صمود حزب الله تأكيدًا على موقعه المحوري في "محور المقاومة". وفي إسرائيل، يقرأ صانع القرار استمرار السلاح بيد الحزب كتعميق لمعادلة الردع على حدودها الشمالية، وهو ما يزيد احتمالات الصدام في أي لحظة.
ملف سلاح حزب الله ليس وليد اليوم؛ فمنذ القرار 1559 عام 2004 الذي طالب بحل الميليشيات اللبنانية، ظل التنفيذ معلقًا. بعد حرب تموز 2006، اكتسب الحزب شرعية "المقاومة" ضد إسرائيل، وهو ما صعّب فصل سلاحه عن هوية وطنية – طائفية متشابكة.
اليوم، مع انهيار الليرة، فراغ المؤسسات، والضغط الدولي المتصاعد، تبدو الدولة اللبنانية أمام معادلة مستحيلة:
إما فرض سيادتها بالقوة بما يعنيه من خطر انفجار داخلي.
أو التعايش مع واقع السلاح الموازي، بما يعنيه من استمرار هشاشة الدولة وانسداد أفق الإصلاح.
لبنان يقف عند مفترق تاريخي: أيّ محاولة لنزع سلاح حزب الله قد تفتح أبواب حرب أهلية جديدة، بينما التعايش مع هذا السلاح يُبقي الدولة أسيرة توازن هش يعطل استقرارها ويضع سيادتها على المحك. وفي ظل معادلات داخلية مفخخة وضغوط إقليمية ودولية متزايدة، يبقى السؤال: هل يستطيع لبنان أن يجد معادلة وسط تحفظ استقراره دون أن يُسلّم مفاتيح قراره لغير الدولة؟