لم تعد آثار حرب غزة الأخيرة مقتصرة على الخسائر الميدانية أو التحديات العسكرية المباشرة، بل امتدت إلى عمق البنية البشرية للجيش الإسرائيلي. إذ كشف تقرير إسرائيلي أن أكثر من 1,100 جندي تم تسريحهم منذ اندلاع الحرب بسبب اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD). هذه الأرقام الصادمة تكشف عن أزمة نفسية متصاعدة تهدد ليس فقط حياة الجنود، بل أيضًا قدرة الجيش على الحفاظ على تماسكه وجاهزيته في ظل نزاعات متواصلة على أكثر من جبهة.
الجنود المتضررون يواجهون معاناة حقيقية تتراوح بين القلق المزمن والعزلة الاجتماعية وانهيارات نفسية تمنعهم من استكمال خدمتهم. بعضهم لجأ للاحتجاج أمام الكنيست، مطالبًا بتحسين الدعم النفسي والتأهيل الاجتماعي، في تعبير مباشر عن الإحباط من سياسات المؤسسة العسكرية. الجيش الإسرائيلي بدوره أعلن عن توسيع برامجه العلاجية، لكنه يواجه صعوبة بالغة في استيعاب الكم المتزايد من الحالات، خاصة في ظل استمرار العمليات القتالية المكثفة في غزة وارتفاع أعداد الجنود المشاركين في المعارك.
المحللون يرون أن هذه الأزمة لا يمكن فصلها عن طبيعة الحرب نفسها، التي اتسمت بطول مدتها، كثافة العمليات البرية، والتعرض المتكرر لمشاهد الدمار والخسائر البشرية. كل ذلك يعزز احتمالات إصابة الجنود باضطرابات نفسية طويلة الأمد. وإذا ما استمرت هذه الأزمة في التصاعد، فقد تنعكس على ثقة الجنود بمؤسستهم، بل وربما تؤثر على استعداد الأجيال القادمة للالتحاق بالخدمة العسكرية.
اضطراب ما بعد الصدمة ليس جديدًا على الجيش الإسرائيلي. فمنذ حرب لبنان 1982 ظهرت حالات واسعة بين الجنود الذين واجهوا قتال الشوارع في بيروت وصور وصيدا. وفي الانتفاضة الثانية (2000–2005)، سُجّلت نسب مرتفعة من الجنود المصابين بالصدمات النفسية بسبب العمليات التفجيرية اليومية والمواجهات المتكررة داخل المدن الفلسطينية. حتى حرب لبنان الثانية عام 2006 خلّفت جرحًا نفسيًا عميقًا في صفوف القوات الإسرائيلية، وسط انتقادات حادة آنذاك لقصور برامج الدعم النفسي.
الجديد هذه المرة أن الأزمة تأتي في سياق حرب طويلة ومفتوحة على أكثر من جبهة: غزة التي تستنزف القوات منذ أشهر، الضفة الغربية التي تشهد مواجهات متصاعدة، والحدود الشمالية مع حزب الله حيث لا ينقطع القصف المتبادل. هذا التعدد في الجبهات يضاعف الضغوط على الجنود، ويضع المؤسسة العسكرية أمام تحدٍ مركب: كيف تحافظ على استمرارية العمليات وفي الوقت نفسه تعالج الانهيارات النفسية الداخلية؟
إضافة إلى ذلك، هناك بُعد اجتماعي أعمق: فالمجتمع الإسرائيلي نفسه يعاني من ارتدادات هذه الأزمات النفسية، مع تزايد حالات العنف الأسري، والإدمان، وتراجع ثقة العائلات في مستقبل أبنائها داخل الجيش. هذا الارتباط بين العسكري والمدني يفتح الباب أمام أزمة أشمل قد تهدد التماسك الاجتماعي في إسرائيل على المدى البعيد.
الخاتمة:
الأزمة النفسية الحالية تمثل جرس إنذار حقيقي للجيش الإسرائيلي، إذ تكشف أن المعركة لم تعد تدور فقط بالسلاح والآليات، بل أيضًا بالعقول والنفوس التي تحمل أعباء الحرب. وإذا لم تُعالج هذه الأزمة بشكل جذري، فقد تتحول إلى نقطة ضعف استراتيجية تضاهي خسائر الميدان. فالحروب قد تُحسم عسكريًا في بعض الأحيان، لكن كلفتها النفسية تستمر أجيالًا.
تجربة الجيش الأمريكي بعد العراق وأفغانستان
الأزمة النفسية التي يواجهها الجيش الإسرائيلي اليوم ليست استثناءً في تجارب الجيوش الكبرى. فقد واجه الجيش الأمريكي تحديًا مشابهًا – بل أوسع نطاقًا – بعد حرب العراق (2003) وحرب أفغانستان (2001–2021). تشير الإحصاءات الأمريكية إلى أن مئات الآلاف من الجنود العائدين من ساحات القتال أصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث قُدّر عددهم بنحو 300 ألف جندي في ذروة الأزمة.
هذه الحالات لم تكن مجرد معاناة شخصية، بل تحولت إلى قضية رأي عام في الولايات المتحدة، إذ ارتفعت نسب الانتحار بين المحاربين القدامى، وواجهت وزارة شؤون المحاربين القدامى ضغوطًا هائلة لتوسيع خدمات العلاج النفسي والتأهيل الاجتماعي.
اللافت أن الجيش الأمريكي – رغم إمكانياته الضخمة – احتاج سنوات طويلة لتطوير برامج الدعم النفسي وتغيير الثقافة الداخلية التي كانت تنظر إلى PTSD باعتباره ضعفًا فرديًا لا مرضًا يجب التعامل معه. ورغم مليارات الدولارات التي ضُخت في العلاج والرعاية، ما تزال الولايات المتحدة تعاني حتى اليوم من تبعات تلك الحروب على المستوى النفسي والاجتماعي.
بالقياس، يبدو أن الجيش الإسرائيلي يدخل الآن مسارًا مشابهًا، لكن في ظروف أكثر تعقيدًا:
من جهة، يواجه الجيش حروبًا متزامنة على عدة جبهات (غزة، الضفة، الشمال).
ومن جهة أخرى، المجتمع الإسرائيلي أصغر حجمًا وأكثر تأثرًا بتداعيات كل أزمة، ما يجعل الأثر النفسي يتسرب بسرعة إلى المجال المدني.
كما أن الاحتجاجات أمام الكنيست تكشف أن القضية بدأت بالفعل تتحول من شأن عسكري داخلي إلى ملف سياسي–اجتماعي يضغط على الحكومة.
هذا التشابه مع التجربة الأمريكية يبرز أن PTSD لم يعد مجرد "تحدٍ طبي" بل أزمة استراتيجية قد تعيد تشكيل العلاقة بين المجتمع والجيش، وتؤثر على قدرة الدولة في خوض الحروب الطويلة.