المواجهة مع الحوثيين دخلت مرحلة جديدة، حيث لم تعد مجرد مواجهة محدودة في البحر الأحمر أو الأراضي اليمنية، بل امتدت لتشمل مخاطر مباشرة على القيادات الإسرائيلية، وربطها بالملف الإقليمي بأكمله، ما يضع إسرائيل أمام تحديات غير مسبوقة على المستويين الأمني والسياسي، ويجعل المنطقة على حافة تصعيد أوسع قد يمتد تأثيره إلى تحالفات دولية وإقليمية متعددة.
وفي تطور أمني لافت، عززت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وعلى رأسها جهاز الشاباك، بشكل غير مسبوق الحماية حول كبار المسؤولين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إسرائيل كاتس. القرار جاء على خلفية تهديدات مباشرة أطلقها الحوثيون بالانتقام بعد الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت العاصمة اليمنية صنعاء، وأدت إلى مقتل رئيس وزراء حكومة الحوثيين أحمد غالب الراهي وعدد من الوزراء وكبار المسؤولين.
استهداف القيادات العليا للحوثيين يمثل خطوة نوعية في الحرب غير التقليدية التي تعتمد على ضرب العقول القيادية والسيطرة على شبكات القرار، وليس فقط المواجهات العسكرية المباشرة. هذا التوجه يعكس تحولًا في طريقة الحرب الحديثة التي تعتمد على الاستهداف الاستراتيجي للقيادات والسيطرة على مراكز النفوذ، وهي استراتيجية تحمل مخاطر تصعيدية كبيرة إذا ما أجبرت الحوثيين على الرد بعمليات نوعية تستهدف إسرائيل مباشرة أو مصالحها في المنطقة.
العملية الإسرائيلية تمثل نقطة تحوّل في استراتيجية المواجهة مع الحوثيين. فبعد سلسلة هجمات متكررة على السفن الإسرائيلية وممرات الشحن في البحر الأحمر، قررت تل أبيب الانتقال من الرد التقليدي إلى استهداف القيادات العليا للجماعة، في محاولة لتفكيك هيكلها السياسي والعسكري. هذه الخطوة، بحسب مصادر أمنية إسرائيلية، تحمل رسالة مزدوجة: الأولى للحوثيين بأن استهداف القيادات سيستمر، والثانية للداخل الإسرائيلي بأن الحكومة تعمل على حماية الأمن القومي بأي وسيلة متاحة.
رد الحوثيين لم يتأخر، إذ أعلنوا أن "الانتقام قادم"، ورافق هذا الإعلان سلسلة إجراءات داخلية تضمنت اقتحام مقار الأمم المتحدة واحتجاز ما لا يقل عن 11 موظفًا من وكالات دولية، من بينهم موظفو اليونيسف وبرامج الغذاء والصحة. الخطوة أثارت استنكارًا دوليًا واسعًا، حيث دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى الإفراج الفوري عن جميع الموظفين المحتجزين، معتبرًا أن الاعتداء على وكالات الإغاثة يعكس تصعيدًا خطيرًا لا يخدم الاستقرار الإقليمي.
المعطيات الأمنية تشير إلى أن إسرائيل تتعامل مع تهديد الحوثيين بجدية غير مسبوقة، خاصة أن الجماعة تتمتع بدعم إيراني مباشر، ما يجعل قدرتها على شن هجمات انتقامية ضد مصالح إسرائيلية في المنطقة عالية. تعزيز الحماية حول كبار المسؤولين تم وصفه بـ"خاص وغير تقليدي"، وهو مؤشر على عمق المخاوف الأمنية التي تحيط بالقيادات السياسية في تل أبيب، في ظل احتمالية تنفيذ الحوثيين عمليات نوعية في البحر الأحمر أو داخل الأراضي الإسرائيلية.
على الصعيد الإقليمي، لا يمكن فصل هذا التصعيد عن السياق الأوسع للصراع الممتد من غزة إلى لبنان وصولًا إلى اليمن. الحوثيون يشكلون ذراعًا إيرانية في خاصرة البحر الأحمر، مما يضاعف التعقيدات الأمنية لإسرائيل، خاصة في ظل توتراتها المتزامنة مع حماس في غزة وحزب الله في لبنان. التحرك الإسرائيلي ضد قيادات الحوثيين ليس مجرد رد انتقامي، بل استراتيجية تهدف إلى قطع "الأذرع البعيدة" التي تهدد الأمن البحري والتجاري في المنطقة، لكنها في الوقت نفسه تحمل مخاطر تصعيدية عالية قد تربط الصراع في اليمن مباشرة بالمواجهات المفتوحة في غزة ولبنان.
من منظور سياسي داخلي، تأتي الضربة في سياق تعزيز مكانة الحكومة الإسرائيلية أمام الرأي العام، حيث يسعى نتنياهو وكتس لإظهار حزمهم في مواجهة تهديدات غير تقليدية. لكن هذا التحرك يثير تساؤلات حول تبعاته على الاستقرار الإقليمي، خاصة في ظل تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، واحتمالية اندلاع مواجهة أوسع تشمل أكثر من جبهة في آن واحد.
الاشتباك بين إسرائيل والحوثيين ليس ظاهرة معزولة، بل جزء من شبكة صراعات إقليمية مترابطة تتداخل فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية. الحوثيون، المدعومون من إيران، يمثلون عنصرًا استراتيجيًا في نفوذ طهران بالبحر الأحمر والخليج العربي، حيث يتيح لهم التحكم في خطوط الملاحة البحرية والتأثير على أسواق الطاقة والتجارة الدولية. وجودهم في اليمن يمنح إيران ورقة ضغط مهمة ضد إسرائيل وحلفائها، ويجعل أي تصعيد ضدهم جزءًا من مواجهة أوسع مع النفوذ الإيراني الإقليمي.
التصعيد الإسرائيلي الأخير، الذي استهدف قيادات الحوثيين في صنعاء، يجب فهمه ضمن هذا السياق؛ فهو لا يهدف فقط إلى الرد على الهجمات الصاروخية على السفن الإسرائيلية، بل يسعى أيضًا لتقليص قدرة الحوثيين على تنفيذ عمليات استراتيجية تهدد المصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وهو معبر حيوي لحركة التجارة العالمية، وخاصة النفط والغاز.
هذا الصراع يمتد تأثيره إلى جبهات أخرى: في غزة، تواجه إسرائيل حماس المدعومة أيضًا من إيران، وفي لبنان، يشكل حزب الله جزءًا من شبكة الضغط الإيرانية على تل أبيب. الربط بين هذه الجبهات يجعل أي تصعيد في اليمن مرتبطًا مباشرة بموازين القوة في لبنان وغزة، ويزيد احتمالية اندلاع مواجهة متعددة الجبهات، وهو ما يشكل تحديًا استراتيجيًا للأمن الإسرائيلي.
على الصعيد الدولي، الصراع يعكس تناقض المصالح بين الولايات المتحدة ودول التحالف العربي مع إيران، حيث تعتبر واشنطن وأوروبا أي تصعيد في البحر الأحمر تهديدًا للأمن البحري الدولي واستقرار أسواق الطاقة. في المقابل، يسعى الحوثيون من خلال العمليات العسكرية وعمليات الضغط ضد إسرائيل إلى تعزيز موقفهم الإقليمي واستعراض قوتهم أمام الداخل اليمني والدولي، مما يضع المنطقة في حالة تأهب دائم.
يمكن القول إن الصراع بين إسرائيل والحوثيين يشكل أحد أبرز مسارات التوتر في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع مصالح القوى الإقليمية والدولية، وتتشابك ملفات اليمن، لبنان، غزة، والبحر الأحمر في شبكة أمنيّة وسياسية معقدة، تجعل أي تحرك ميداني مؤثرًا على المعادلات الإقليمية بأكملها.