في ذروة التوتر الميداني والسياسي، عقد مجلس الأمن الإسرائيلي اجتماعًا امتد حتى فجر اليوم الاثنين، بدا وكأنه يرسم ملامح المرحلة المقبلة. فبدلًا من التطرق إلى صفقة الأسرى التي تترقبها العائلات الإسرائيلية، اختارت الحكومة تجاوز هذا الملف كليًا وفتح نقاشات أشد خطورة: اقتحام مدينة غزة وضم أجزاء من الضفة الغربية. بهذا الترتيب للأولويات، تكشف تل أبيب عنط نزعة توسعية لا تقتصر على إدارة الحرب، بل تسعى إلى إعادة صياغة المشهد السياسي والجغرافي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي.
اجتماع مجلس الأمن الإسرائيلي الذي امتد من مساء الأحد إلى فجر الاثنين حمل دلالات لافتة تتجاوز تفاصيله المباشرة. فبينما كانت الأنظار مشدودة إلى ملف الأسرى المحتجزين في غزة، تجاهلت الحكومة الإسرائيلية هذا الملف بشكل كامل، ووضعت على الطاولة ملفات أخرى أكثر حساسية: اقتحام مدينة غزة، وطرح مسألة فرض السيادة على أجزاء من الضفة الغربية.
هذا الترتيب للأولويات يكشف عن عقلية الحكومة الإسرائيلية في المرحلة الراهنة، حيث يجري التعامل مع الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية باعتبارهم ملفًا ثانويًا أو قابلًا للتأجيل، مقابل دفع خطوات ميدانية قد تغيّر طبيعة الصراع. غياب اللواء نيتسان ألون، المسؤول عن مسار المفاوضات، عن الاجتماع لم يكن تفصيلاً بروتوكوليًا، بل إشارة واضحة إلى أن القرار كان متعمدًا، وأن الحكومة لم ترد إدخال مسار الصفقة في دائرة النقاش.
من ناحية أخرى، تعكس الضغوط التي مارسها وزراء من التيار اليميني المتطرف، وفي مقدمتهم إيتمار بن غفير، محاولة لفرض مسألة التصويت على صفقة الأسرى في قلب الاجتماع. إلا أن رفض رئيس الوزراء إدراج هذا البند يوضح حجم الانقسام الداخلي بين أجندة اليمين العقائدي وبين حسابات القيادة السياسية التي تسعى إلى إدارة الحرب بمزيج من التصعيد العسكري والتهرب من الاستحقاقات الإنسانية.
التركيز على الضفة الغربية في هذا التوقيت يفتح الباب أمام سيناريوهات أكثر خطورة. فمجرد طرح ضم أجزاء من الضفة أو فرض السيادة الإسرائيلية عليها، في ظل انشغال المجتمع الدولي بمجازر غزة والحرب المتواصلة، يشي بمحاولة استغلال اللحظة التاريخية لفرض وقائع جديدة على الأرض. هذه الخطوة ليست مجرد ورقة سياسية للضغط، بل تعكس اتجاهًا استراتيجيًا لتصفية فكرة الدولة الفلسطينية من جذورها.
وفي العمق، يبدو أن الحكومة الإسرائيلية تتحرك وفق معادلة مزدوجة: تصعيد عسكري متواصل في غزة يستهدف "السيطرة الكاملة"، بالتوازي مع خطوات سياسية نحو الضفة، وهو ما يهدد بتحويل الحرب الحالية من معركة تكتيكية مع حماس إلى مشروع استراتيجي لتكريس ضم الأراضي الفلسطينية وإعادة رسم المشهد الجيوسياسي.
في المقابل، تتواصل احتجاجات أهالي الأسرى في الداخل الإسرائيلي، الذين يرون أبناءهم خارج حسابات الحكومة. المفارقة أن الحكومة التي ترفع شعار "إعادة الأسرى" في خطابها العام، تتجاهل هذا الملف عندما يكون القرار الفعلي على طاولة مجلس الأمن المصغر. هذه الفجوة بين الخطاب والممارسة لا تهدد فقط وحدة الجبهة الداخلية، بل قد تتحول إلى عامل ضغط داخلي يقوض شرعية القيادة السياسية في ظل حرب طويلة الأمد.
اجتماع مجلس الأمن الأخير لم يكن مجرد نقاش تقني أو جلسة تقديرات أمنية، بل خطوة تكشف وجهة البوصلة الإسرائيلية: حرب مفتوحة بلا أفق تسوية، ومشاريع سياسية تعيد قضية الضم إلى صدارة المشهد. وهو مسار من شأنه أن يضع إسرائيل في مواجهة ليس فقط مع الفلسطينيين، بل مع المجتمع الدولي بأسره، في لحظة تتقاطع فيها الحروب الإقليمية مع تصاعد الضغوط الدولية على تل أبيب.
قضية ضم الضفة الغربية ليست جديدة على الأجندة الإسرائيلية، لكنها تعود بقوة كلما وجدت الحكومات اليمينية فرصة تاريخية لفرض وقائع على الأرض. منذ اتفاق أوسلو عام 1993، بقيت الضفة الغربية تحت إدارة عسكرية إسرائيلية مع تقسيمها إلى مناطق (A, B, C). المنطقة (C) التي تشكل نحو 60% من مساحة الضفة، ظلت الهدف الاستراتيجي للمشاريع الاستيطانية، باعتبارها العمق الجغرافي الذي يتيح لإسرائيل التحكم في المجال الحيوي الفلسطيني.
خلال العقدين الماضيين، سعت الحكومات الإسرائيلية إلى تعزيز الاستيطان، لكن خطوة الضم الرسمية ظلت مجمدة بفعل التوازنات الدولية. في عام 2020، طرح بنيامين نتنياهو خطة لضم مساحات واسعة من الضفة بدعم ضمني من إدارة ترامب ضمن "صفقة القرن". غير أن المعارضة الدولية، وخاصة من الاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية التي كانت تفاوض على مسار التطبيع، دفعت تل أبيب إلى التراجع التكتيكي والاكتفاء بتوسيع الاستيطان دون إعلان قانوني للضم.
اليوم، ومع استمرار الحرب على غزة، يبدو أن الحكومة اليمينية ترى اللحظة مناسبة لإعادة فتح الملف. انشغال المجتمع الدولي بالمجازر اليومية والكارثة الإنسانية في القطاع يوفر مظلة سياسية لتمرير قرارات خطيرة بحق الضفة. وبطرح الضم على طاولة مجلس الأمن المصغر، تُرسل إسرائيل رسالة مزدوجة: أن المعركة ليست فقط على غزة، بل على مستقبل الضفة الغربية، أي على مصير المشروع الوطني الفلسطيني برمّته.
ما يضاعف خطورة هذا التوجه أن الضم لم يعد مجرد شعار انتخابي أو ورقة مساومة، بل يجري بحثه في دوائر صنع القرار الأمني، ما يعني أن إسرائيل تضع أساسًا قانونيًا وسياسيًا لاستباق أي تسوية مستقبلية. الهدف الواضح هو تقويض فكرة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وتحويل الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات معزولة بلا سيادة، بينما تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الكاملة على الحدود والمعابر والموارد.
من هنا، يمكن قراءة اجتماع مجلس الأمن الإسرائيلي الأخير كجزء من مسار استراتيجي ممتد: السيطرة الكاملة على غزة، وتحويل الضفة إلى كيان منزوع السيادة عبر خطوات الضم. وهو مسار إذا ما تم تثبيته، فإنه لن يفتح فقط جولة جديدة من الصراع مع الفلسطينيين، بل سيضع إسرائيل في مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي الذي ما زال – ولو شكليًا – متمسكًا بحل الدولتين.
التداعيات الإقليمية والدولية
طرح ملف الضم في هذا التوقيت لا يمكن فصله عن شبكة الحسابات الإقليمية والدولية التي تحيط بإسرائيل. الولايات المتحدة، رغم دعمها التقليدي لتل أبيب، تجد نفسها أمام معادلة معقدة: إدارة أمريكية منشغلة بانتخابات رئاسية محتدمة، وضغوط داخلية من اللوبيات المؤيدة لإسرائيل، في مقابل انتقادات متزايدة داخل الحزب الديمقراطي بسبب الكارثة الإنسانية في غزة. خطوة الضم قد تضع واشنطن في مأزق مزدوج: فهي من جهة لا تريد خسارة إسرائيل كحليف استراتيجي، ومن جهة أخرى لا تستطيع مواجهة موجة الغضب الدولي التي ستتصاعد ضد أي إعلان بضم أراضٍ فلسطينية.
على الصعيد العربي، يختلف المشهد. دول مثل الأردن ومصر تنظر إلى ملف الضم كخط أحمر مباشر يمس أمنها القومي، خاصة إذا طال غور الأردن أو مساحات متاخمة للحدود. مثل هذه الخطوات ستفجّر بالضرورة حالة من التوتر في العلاقات الثنائية، وتعيد للأذهان أجواء ما قبل معاهدات السلام. أما دول الخليج التي راهنت على مسار التطبيع، فإنها ستجد نفسها في حرج سياسي أمام شعوبها، إذ لا يمكن الدفاع عن مسار سلام اقتصادي في وقت تُعلن فيه إسرائيل ابتلاع ما تبقى من الأراضي الفلسطينية.
دوليًا، سيواجه مشروع الضم رفضًا شبه جماعي من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، لكن الإشكال أن هذا الرفض غالبًا ما يبقى في إطار البيانات الدبلوماسية والعقوبات الرمزية، بينما تستمر إسرائيل في فرض وقائع جديدة على الأرض. مع ذلك، فإن تصعيدًا من هذا النوع قد يعمّق عزلة تل أبيب سياسيًا ويعرّضها لمساءلة قانونية متزايدة أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
في الإقليم الأوسع، من الواضح أن أي ضم للضفة لن يمر من دون رد فعل من الفصائل الفلسطينية، وربما يفتح الباب أمام جولة جديدة من التصعيد في الضفة وغزة معًا. وهو ما قد ينعكس على جبهات أخرى مثل جنوب لبنان أو حتى داخل الأراضي المحتلة عام 48، حيث التوترات متصاعدة أصلًا.
بالتالي، فإن اجتماع مجلس الأمن الإسرائيلي لم يكن مجرد جلسة لتقدير الموقف العسكري، بل خطوة تكشف عن نزعة توسعية تتحدى ليس فقط الفلسطينيين، بل النظام الإقليمي برمّته. هذا المسار إذا استمر، فلن يقتصر على تغيير معالم الصراع، بل قد يعيد تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة، ويضع إسرائيل في مواجهة مفتوحة مع الفلسطينيين والعالم في آن واحد.
ما جرى في اجتماع مجلس الأمن الإسرائيلي الأخير ليس تفصيلاً عابرًا، بل مؤشر على مسار استراتيجي يزداد وضوحًا: إدارة الحرب في غزة كذريعة لتكريس السيطرة الكاملة على القطاع، وفتح الباب أمام ضم أجزاء من الضفة الغربية في محاولة لتصفية أي أفق لحل الدولتين. تجاهل ملف الأسرى يكشف عن أولويات الحكومة الحالية، حيث يتقدّم المشروع التوسعي على الاعتبارات الإنسانية والسياسية الداخلية.
في المقابل، فإن تداعيات هذا النهج قد تتجاوز حدود فلسطين إلى النظام الإقليمي برمته، مهددةً استقرار العلاقات مع دول الجوار ومربكةً حسابات العواصم الكبرى. إسرائيل، وهي تدفع نحو واقع استيطاني-أمني جديد، تبدو وكأنها تراهن على ضعف الموقف الدولي وانشغال المنطقة بأزماتها، لكنها في الوقت نفسه تفتح الباب أمام مواجهة مفتوحة قد تعيد الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي إلى نقطة الانفجار الشامل.
بهذا المعنى، يعكس الاجتماع الأخير ليس فقط موازين القوى داخل الحكومة الإسرائيلية، بل طبيعة المرحلة المقبلة: مرحلة يسعى فيها اليمين الإسرائيلي لفرض تسوية أحادية بالقوة، بينما يواجه الفلسطينيون والعالم معًا اختبارًا مصيريًا حول مستقبل القضية بأسرها.