رحيل أسعد عرابي.. ذاكرة الفن العربي

2025.08.30 - 05:29
Facebook Share
طباعة

 فقدت الساحة التشكيلية العربية واحدًا من أبرز أعمدتها برحيل الفنان والناقد التشكيلي السوري أسعد عرابي، الذي توفي أمس في باريس عن عمر ناهز 84 عامًا، بعد مسيرة حافلة امتدت لأكثر من ستة عقود، ترك خلالها أثرًا عميقًا في مسار الفن العربي الحديث، ممارسةً ونقدًا وتأريخًا.

من دمشق إلى صيدا فباريس

وُلد عرابي في دمشق عام 1941، لكنه نشأ في مدينة صيدا اللبنانية حيث تفتّح وعيه الأول على الفنون. التحق لاحقًا بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق وتخرج عام 1965، قبل أن يواصل رحلته العلمية والفنية في باريس منذ عام 1975. هناك، درس في "المعهد العالي للفنون الجميلة" وتخصص في فن التصوير الزيتي، ثم حصل على الدكتوراه في علم الجماليات من جامعة السوربون، وهو ما منحه قاعدة معرفية عميقة مكّنته من الجمع بين الممارسة الفنية والتأمل النظري.

فنان وناقد في آن

عرابي لم يكن مجرد رسام يقدم لوحات في المعارض، بل مثّل حالة مزدوجة نادرة في الثقافة العربية، إذ جمع بين الحس الإبداعي للفنان والصرامة النقدية للمؤرخ. أقام معارض عديدة في دمشق وبيروت وباريس وعواصم عربية وأوروبية أخرى، وفي الوقت نفسه كتب دراسات وكتبًا أصبحت مراجع في قراءة الحداثة التشكيلية العربية.

من أبرز مؤلفاته: وجوه الحداثة في اللوحة العربية، صدمة الحداثة في اللوحة العربية، وشهادة اللوحة في نصف قرن. في هذه الأعمال، وثّق التحولات التي شهدتها اللوحة العربية، ووقف على أسئلة العلاقة بين الأصالة والحداثة، وبين الهوية والانفتاح على المدارس العالمية.

بين التجريد والمكان

في أعماله التشكيلية، سعى عرابي إلى بناء لغة بصرية خاصة، تمزج بين التجريد والتكوينات المعمارية للمدن التي عاش فيها. كان يستلهم ملامح دمشق القديمة، وأجواء صيدا الساحلية، وروح باريس الحديثة، ليحوّلها إلى فضاءات لونية يتداخل فيها الإيقاع الموسيقي مع البنية البصرية.
وقد عبّر عن هذه العلاقة في إحدى شهاداته قائلاً: "لطالما شعرتُ بتلك العلاقة بين الموسيقى والشكل… عندما أستمع إلى الموسيقى بوسعي أن أتخيّل أشكالاً ترتسم معالمها".

شهادة المثقفين والأقارب

مع إعلان خبر وفاته، نعاه شقيقه نبيل عبر حسابه على وسائل التواصل قائلاً: "اليوم نودّع برحيل الدكتور أسعد عرابي قامة فنية وفكرية حملت الفن لأكثر من خمسين عامًا، فنانًا وناقدًا تشكيليًا ترك بصمة عميقة في وجدان الثقافة العربية".
هذا الحزن لم يقتصر على محيطه العائلي، بل انسحب على الوسط التشكيلي العربي الذي خسر شخصية لعبت دورًا في صياغة خطاب الفن الحديث، ليس عبر اللوحة فقط بل عبر الكلمة أيضًا.

إرث يتجاوز الجيل

رحيل أسعد عرابي لا يعني غياب لوحاته أو كتبه، بل يفتح بابًا لإعادة قراءة مسيرته بوصفها مرآة لرحلة الفن العربي في نصف قرن مضى. فقد جسّد في أعماله التوتر بين الانتماء المحلي والانفتاح العالمي، وبين التراث والحداثة، وبين الرؤية الجمالية والتفسير النقدي.
ومن هنا، فإن غيابه يترك فراغًا في النقد التشكيلي العربي، لكنه يخلّف أيضًا رصيدًا فكريًا وبصريًا سيبقى مرجعًا للأجيال اللاحقة من الفنانين والباحثين.

خسارة للمشهد الثقافي العربي

بوفاته، يخسر المشهد الثقافي العربي أحد أبرز الأصوات التي عملت على إبراز هوية الفن الحديث في المنطقة. لقد مثّل عرابي جسرًا بين الشرق والغرب، وبين الممارسة الفنية والتنظير الأكاديمي، وبين جيل المؤسسين وما تلاه من تجارب جديدة تبحث عن مكانها في عالم الفن العالمي.

رحيل أسعد عرابي ليس مجرد فقدان لفنان وناقد، بل هو طيّ صفحة من ذاكرة الثقافة العربية، صفحة حملت توقيعًا شخصيًا لواحد من الذين آمنوا أن الفن ليس ترفًا بصريًا، بل لغة ووعي وهوية.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 6