لا تزال العلاقة بين لبنان وسوريا محكومة بالضبابية، رغم الخطاب المتكرر في بيروت عن "ندّية" في التعاطي ومرحلة جديدة تختلف عن الماضي. فالجانب اللبناني يُكثر من الحديث عن علاقات متكافئة مع دمشق، لكنه لم ينجح حتى الآن في تظهير جدية كاملة تجاه ما يريده الحكم السوري الجديد. في المقابل، تبدو دمشق متحفّظة، ولم تبادر إلى خطوات مباشرة لرفع مستوى التنسيق أو إعادة فتح قنوات التواصل على نحو يبدّد هذه الشكوك. وما زالت الأخبار المتداولة في الأوساط السياسية تعتمد على شائعات حول زيارات رسمية مرتقبة، مثل ما جرى تداوله أخيراً عن قمة لبنانية سورية يُقال إنها ستُعقد في القصر الجمهوري، حيث يُتوقّع أن يستقبل الرئيس اللبناني نظيره السوري أحمد الشرع مطلع الخريف المقبل.
في هذا المناخ المليء بالانتظار، يتطلّع لبنان إلى إشارة سورية تحدد موعداً جديداً لزيارة الوفد القضائي ـ الأمني ـ السياسي السوري المؤجَّلة. فالموعد السابق كان مقرراً الأسبوع الماضي ثم أُرجئ إلى موعد لاحق، من دون وضوح كافٍ حول الأسباب. مصادر وزارية لبنانية أكدت أن بيروت لم تضع حتى الآن جدول أعمال واضحاً لأي لقاء مع الوفد السوري المنتظر، بل إن هوية أعضائه لم تُعلن بعد. لكن المرجّح أن تشمل النقاشات ملفات حساسة مثل ترسيم الحدود البرية والبحرية، وتحديد الوضع القانوني لمزارع شبعا، إضافة إلى ملف الموقوفين الإسلاميين والاتفاقيات السابقة بين البلدين. وفي إطار التحضير، أوكلت مهمة التنسيق إلى نائب رئيس الحكومة طارق متري، الذي سيعمل على الربط بين وزارات الخارجية والدفاع والداخلية والعدل، كونها الوزارات المعنية بشكل مباشر بالزيارة المرتقبة.
غير أن خلفيات التأجيل لم تكن محصورة بأسباب لوجستية. فقد تبيّن أن الوفد السوري تراجع عن الحضور في اللحظة الأخيرة بعدما لمس إشارات سلبية من الجانب اللبناني، ولا سيما بشأن طلبه الواضح بالإفراج السريع عن جميع المعتقلين، سواء من السوريين أو اللبنانيين، ممن أُوقفوا أو حوكموا على خلفية ارتباطهم بالمعركة ضد النظام السوري السابق أو بسبب مواقفهم من الأحداث الدامية التي شهدتها سوريا في تلك الفترة. دمشق اعتبرت أن هذا الملف لا يحتمل التسويف أو التأجيل، وأن تجاوب بيروت معه هو المدخل الضروري لإقامة علاقة جديدة على أسس صلبة.
من وجهة النظر السورية، فإن معالجة ملف الموقوفين هو بمثابة خطوة اختبارية لقياس مدى استعداد لبنان للانخراط بجدية في بناء علاقة قائمة على التعاون والثقة. فبدون معالجة عاجلة لهذا الملف، ترى دمشق أن الحديث عن معالجة القضايا الأخرى ـ كالحدود أو مزارع شبعا أو مراجعة الاتفاقيات السابقة ـ لن يتعدى مستوى الشعارات. لذلك، وضعت سوريا هذا الشرط في الواجهة، معتبرة أنه اختبار لنوايا الحكومة اللبنانية، وأن تجاوبها معه سيكون مؤشراً على إمكانية فتح صفحة جديدة بين البلدين.
لكن النقاش لا يتوقف عند هذا الحد. فالأوساط السورية تبدي امتعاضاً من الطريقة التي أدار بها لبنان عملية التحضير للزيارة. فقد أبدت بعض الأصوات في دمشق استياءها من استبعاد وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي عن هذا الملف، معتبرة أن تكليف الوزير طارق متري بمتابعته حوّل المهمة إلى إجراء إداري وتقني، في حين أن طبيعة الملفات المطروحة تقتضي معالجة سياسية من الطراز الأول. هذا الانطباع أضاف طبقة جديدة من البرود على العلاقة، ورسّخ لدى دمشق قناعة بأن بيروت لم تُحسن بعد تقدير حجم الملفات المطروحة.
أما في لبنان، فالصورة لا تقل تعقيداً. فهناك انقسام داخلي حول طريقة التعامل مع سوريا: فجزء من القوى السياسية يرى أن إعادة بناء العلاقة لا بد أن تبدأ بخطوات عملية واضحة من دمشق نفسها، مثل إعادة العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى السفراء وتسهيل ملف الحدود، فيما يعتقد فريق آخر أن الكرة في ملعب بيروت، وأن عدم المبادرة إلى خطوات حسن نية ـ كإطلاق الموقوفين السوريين واللبنانيين ـ سيجعل دمشق أكثر تصلباً في أي مفاوضات لاحقة. وبين هذين الموقفين، تبقى الحكومة اللبنانية في موقع المتردد، متجنبة الدخول في قرارات حاسمة قد تثير حساسيات داخلية أو إقليمية.
تتداخل هذه التطورات مع خلفية إقليمية أوسع. فدمشق، التي تحاول تثبيت أقدامها في مرحلة ما بعد الأحداث الداخلية العاصفة، تريد اختبار عمق صداقات جيرانها. وهي ترى في لبنان ساحة طبيعية لاختبار هذا التحول. أما بيروت، فهي تخشى أن تصبح علاقتها بسوريا ورقة مساومة في صراعات المحاور الإقليمية والدولية، وهو ما يفسر الحذر المفرط في تحديد مواقفها.
في المحصلة، العلاقة بين البلدين تبدو معلّقة على خيط رفيع. زيارة الوفد السوري قد تشكل نقطة الانطلاق نحو مسار جديد، لكنها قد تتحول أيضاً إلى محطة توتر إضافية إذا لم يُحسن الطرفان إدارتها. فدمشق تنتظر من بيروت خطوات ملموسة، أولها إطلاق الموقوفين، فيما بيروت تحاول موازنة الداخل والخارج في آن واحد. وبين الانتظار والتأجيل، تبقى الملفات الثقيلة على الطاولة: الحدود، شبعا، الاتفاقيات، والمعتقلون، وكلها قضايا لا تحتمل المراوحة طويلاً.