في خضم المعارك الدامية التي يشهدها شرق مدينة غزة، نشرت كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس صورة من عملية أسر سابقة لجندي إسرائيلي خلال هجوم 7 أكتوبر، مرفقة برسالة حاسمة: "نُذكّر من ينسى – الموت أو الأسر".
تزامن ذلك مع تقارير إسرائيلية عن وقوع كمائن معقدة في حي الزيتون، وسط حديث عن مفقودين في صفوف الجيش الإسرائيلي وتفعيل "بروتوكول هنيبعل"، ما يفتح الباب مجدداً على أكثر الملفات حساسية بالنسبة للمؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية: ملف الأسرى.
وما بين "الموت أو الأسر" الذي ترفعه كتائب القسام، و"بروتوكول هنيبعل" الذي تلجأ إليه إسرائيل، تبدو معركة غزة وقد دخلت مرحلة جديدة أكثر تعقيداً، حيث لم تعد الحرب مجرد قصف متبادل أو اجتياح بري، بل صراع على الرموز والمعادلات النفسية والسياسية. في هذه المعركة، يدرك الطرفان أن أسر جندي واحد قد يغير موازين الحرب برمتها، وهو ما يجعل حي الزيتون اليوم ساحة اختبار حقيقية لإسرائيل في أعمق كوابيسها.
كمائن غزة تعصف بجيش الاحتلال
بحسب الإعلام العبري، خاضت وحدات الجيش الإسرائيلي معارك استثنائية في الأحياء الشرقية لمدينة غزة، لا سيما في حي الزيتون، حيث أشارت مصادر ميدانية إلى وقوع عدة أحداث أمنية متزامنة. الأنباء المتواترة تتحدث عن كمائن متكررة نصبها مقاتلو القسام، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، بينما لا تزال هوية وعدد المفقودين غير محسومة حتى الآن.
هذه التطورات تأتي في لحظة بالغة الحساسية، إذ يواصل الجيش الإسرائيلي استنزافه في المناطق المكتظة، حيث يصعب السيطرة الكاملة رغم مرور شهور على بدء الحرب.
الأسر.. كابوس إسرائيل المستمر
لم يكن نشر صورة "القسام" مجرد دعاية عابرة، بل رسالة سياسية ونفسية مركبة. فإسرائيل ما زالت تعاني من جراح مفتوحة منذ عملية أسر الجندي جلعاد شاليط عام 2006، والتي انتهت بصفقة تبادل ضخمة عام 2011 أطلقت بموجبها حماس أكثر من ألف أسير فلسطيني.
اليوم، تعود كتائب القسام إلى ذات المعادلة: إما الموت أو الأسر، في إشارة إلى أن المعركة بالنسبة لها لا تقتصر على الصمود العسكري، بل تمتد إلى الضغط على الوعي الإسرائيلي، وإحياء هواجس "الجنود المفقودين" التي تثير انقساماً داخلياً في المجتمع والسياسة الإسرائيلية.
بروتوكول "هنيبعل".. من سر عسكري إلى فضيحة سياسية
إحدى النقاط المثيرة في هذه الجولة أن الإعلام العبري تحدث صراحة عن تفعيل "بروتوكول هنيبعل"، وهو إجراء عسكري إسرائيلي سري يهدف إلى منع أسر الجنود "بأي ثمن"، حتى لو كان الثمن قتل الجندي نفسه.
هذا البروتوكول طالما كان موضع جدل داخل إسرائيل، إذ يتعارض مع ما يُفترض أنه "قدسية حياة الجندي". استخدامه الآن في غزة يسلّط الضوء على مأزق الجيش: بين الخوف من سقوط أسرى قد يُستثمرون سياسياً من قبل حماس، وبين اتهامات داخلية متزايدة بأن القيادة العسكرية تُضحّي بجنودها لمنع تكرار سيناريو "صفقة شاليط".
الرسائل المتبادلة: حرب نفسية تتجاوز الميدان
من الواضح أن نشر القسام لصورة الأسرى السابقة جاء كجزء من حرب نفسية مركّبة. الرسالة موجهة أولاً للجيش الإسرائيلي الذي يخوض معارك معقدة في بيئة عدائية، وثانياً للرأي العام الإسرائيلي الذي يتابع بقلق أخبار المفقودين، وثالثاً للمجتمع الدولي الذي يراقب مأساة غزة في ظل استمرار الحرب.
في المقابل، تسعى القيادة الإسرائيلية عبر تسريبات إعلامية للقول إن "لا أسرى جدد بيد القسام"، لتطمين الجمهور ومنع أي حالة ذعر أو انهيار معنوي، خصوصاً مع اقتراب الذكرى الثانية لعملية 7 أكتوبر.
الأسر في العقيدة الفلسطينية – عقدة إسرائيل الدائمة
منذ تأسيسها، جعلت حركات المقاومة الفلسطينية من قضية الأسرى محوراً استراتيجياً، إذ ترى فيها أداة فاعلة لتحرير المعتقلين في سجون الاحتلال. عمليات الأسر تحولت إلى "معادلة ردع" توازي قوة السلاح، خصوصاً بعدما أجبرت إسرائيل في أكثر من مناسبة على الدخول في صفقات تبادل.
أما في المقابل، فإن إسرائيل تعتبر فقدان الجنود "أحد أخطر الكوابيس الاستراتيجية"، لأنه لا يهدد فقط صورتها كقوة لا تُقهر، بل يفتح باب المساومات السياسية الداخلية والخارجية.
لم يكن ملف الأسرى مجرد قضية عسكرية لإسرائيل، بل تحوّل إلى صداع سياسي يطارد كل حكومة تتولى الحكم. ففي الداخل الإسرائيلي، يملك أهالي الجنود المفقودين قوة ضغط هائلة، حيث ينظمون اعتصامات ومسيرات، ويلاحقون القادة في المحاكم والإعلام، حتى تتحول قضيتهم إلى ورقة ضغط على رأس الحكومة نفسها.
أبرز مثال على ذلك كان عام 2011، حين أجبر بنيامين نتنياهو على إبرام صفقة شاليط رغم اعتراض عدد من قادة الأمن. كان نتنياهو قد صعد إلى السلطة وهو يرفع شعار "عدم الخضوع للإرهاب"، لكنه في النهاية رضخ تحت ضغط عائلات الجنود والرأي العام، وأطلق أكثر من ألف أسير فلسطيني مقابل جندي واحد. تلك الصفقة اعتُبرت انتكاسة لهيبة الحكومة الإسرائيلية، وأظهرت أن القوة العسكرية لا تستطيع دائماً فرض الحلول.
ومنذ ذلك الحين، أصبح كل رئيس وزراء إسرائيلي يحسب ألف حساب لأي عملية أسر.
في حرب 2014 مثلاً، حاولت حكومة نتنياهو التعتيم على مصير شاؤول آرون وهدار غولدن، خشية أن يتحول الملف إلى أزمة سياسية داخلية. لكن عائلات الجنود لم تتوقف عن المطالبة بصفقات تبادل، ما وضع الحكومة تحت ضغط دائم.
أما اليوم، بعد عملية 7 أكتوبر 2023، فقد بلغ الملف ذروة جديدة. فقدان عشرات الجنود والمستوطنين دفعة واحدة، بينهم ضباط كبار، جعل إسرائيل أمام معضلة غير مسبوقة: هل تواصل الحرب بلا قيود وتخاطر بقتل الأسرى كما يفرض "بروتوكول هنيبعل"، أم تدخل في مفاوضات قد تنتهي بصفقة ضخمة تعيد آلاف الفلسطينيين إلى السجون أو خارجها؟
الجدل السياسي داخل تل أبيب يعكس هذا المأزق: بعض الأحزاب اليمينية تطالب بعدم التفاوض و"استخدام القوة حتى النهاية"، بينما تضغط عائلات الأسرى ومعها قوى من المعارضة لوقف الحرب والبحث عن حل سياسي يضمن عودة أبنائهم.
هكذا يتضح أن ملف الأسرى لم يعد مجرد تفصيل ميداني في حرب غزة، بل عقدة سياسية تهدد استقرار الحكومات، وقد تكون العامل الأبرز في تحديد مستقبل نتنياهو نفسه، تماماً كما كان شاليط نقطة فاصلة في مسيرته السياسية قبل أكثر من عقد.
ومنذ الأيام الأولى لقيام إسرائيل، ظلّ شبح الأسر يلاحق جيشها، مكوِّناً عقدةً نفسية وأمنية عميقة. في حرب أكتوبر عام 1973، وقع المئات من الجنود الإسرائيليين في الأسر لدى الجيشين المصري والسوري، في واحدة من أكثر اللحظات إيلاماً لتل أبيب، إذ أجبرت على الدخول في مفاوضات وصفقات تبادل واسعة أعادت الأسرى مقابل الإفراج عن معتقلين عرب وفلسطينيين. كان ذلك أول درس قاسٍ على أن "قدسية حياة الجندي الإسرائيلي" يمكن أن تهتز تحت وقع المعارك.
لاحقاً، في جبهة لبنان، أعاد حزب الله تثبيت هذه العقدة. فمنذ الثمانينيات نفذ الحزب عمليات أسر متكررة، كان أبرزها عملية عام 2000 وما تبعها من صفقة تبادل عام 2004، وصولاً إلى عملية "الوعد الصادق" عام 2006 التي انتهت بصفقة تاريخية عام 2008. هذه العمليات لم تكن مجرد إنجاز عسكري، بل فرضت معادلة جديدة على إسرائيل: جنودها يمكن أن يتحولوا إلى أوراق مساومة تعيد المئات من الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين إلى بيوتهم.
لكن الضربة الأكبر جاءت من غزة عام 2006، حين نفذت كتائب القسام عملية نوعية أسرت خلالها الجندي جلعاد شاليط. لأكثر من خمس سنوات ظلّت إسرائيل عاجزة عن تحريره رغم كل قوتها العسكرية والاستخباراتية. وفي النهاية، اضطرت عام 2011 إلى إبرام صفقة تبادل محرجة أطلقت بموجبها أكثر من ألف أسير فلسطيني، بينهم قيادات بارزة، مقابل شاليط وحده. داخل إسرائيل، وُصفت الصفقة بأنها "الانتصار النفسي الأكبر لحماس"، لأنها أثبتت أن ورقة الأسر قادرة على كسر عناد الحكومات الإسرائيلية.
وفي حرب 2014، تجددت الكابوس مع إعلان القسام أسر الجندي شاؤول آرون، وسط تضارب الروايات الإسرائيلية عن مصيره. أما في هجوم 7 أكتوبر 2023، فقد بلغ الملف ذروته، مع أسر العشرات من الجنود والمستوطنين دفعة واحدة، بينهم ضباط بارزون، ما فتح الباب أمام مفاوضات شاقة وصراع سياسي داخلي في إسرائيل حول كيفية إدارتها.
هكذا، أصبح ملف الأسرى خطاً أحمر في الوعي الإسرائيلي: جندي واحد مفقود يمكن أن يشعل عاصفة سياسية، ويؤدي إلى استقالة حكومات، ويجبر إسرائيل على الدخول في صفقات مؤلمة. في المقابل، أدركت المقاومة الفلسطينية أن أسر جندي يعادل في تأثيره مئات الصواريخ، لأنه يضرب في أعمق نقاط ضعف الجيش الذي يرفع شعار "لا يترك جنوده وراءه".