جاء قرار مجلس الأمن بتمديد ولاية قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) حتى ديسمبر 2026 على أن يبدأ انسحابها النهائي خلال 2027، بمثابة محطة تاريخية تُغلق صفحة امتدت ما يقارب نصف قرن. منذ عام 1978، شكّلت “يونيفيل” ركيزة في معادلة الأمن الحدودي بين لبنان وإسرائيل، وحولت الجنوب إلى منطقة تخضع لإشراف أممي مباشر، وإن كان هشًا ومتذبذبًا. اليوم، مع اقتراب موعد خروج آخر جندي أممي، تطرح أسئلة صعبة حول من سيملأ هذا الفراغ: هل يتمكن الجيش اللبناني من تحمل العبء في ظل أزمته العميقة؟ أم يصبح حزب الله اللاعب الأمني الأوحد؟ وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لإسرائيل والمنطقة بأكملها؟
القرار الذي تم تمريره بعد مشاورات مطولة داخل أروقة الأمم المتحدة لم يكن وليد لحظة مفاجئة، بل ثمرة نقاشات بدأت منذ أكثر من عام حول جدوى استمرار “يونيفيل”. الولايات المتحدة دفعت باتجاه إنهاء المهمة سريعًا، معتبرة أن القوة باتت غير فاعلة على الأرض، وأن المجتمع الدولي ينفق قرابة نصف مليار دولار سنويًا دون نتائج ملموسة. في المقابل، سعت فرنسا، التي تقود تاريخيًا الملف اللبناني داخل المنظمة، إلى إقناع الأعضاء بضرورة الإبقاء على “يونيفيل” لعامين إضافيين لتأمين “انسحاب منظم” يتيح للجيش اللبناني الاستعداد.
وبحسب نص القرار، سيُسمح للقوة بالعمل بكامل طاقتها حتى نهاية 2026، على أن يبدأ انسحاب تدريجي خلال 2027 يشمل إعادة تمركز القوات، إغلاق المقرات الأممية في الجنوب، وتسليم معدات إلى الجيش اللبناني حيث أمكن. هذه المرحلة الانتقالية تعكس إدراكًا دوليًا بأن الفراغ الأمني المفاجئ قد يشعل توترًا حدوديًا يصعب احتواؤه.
أبرز ما ميز القرار هو تباين المواقف:
الولايات المتحدة رأت أن بقاء “يونيفيل” غير مبرر، بل يتيح لحزب الله تعزيز وجوده تحت غطاء دولي. الموقف الأميركي حمل أيضًا بُعدًا داخليًا يتعلق بتقليص الإنفاق على بعثات حفظ السلام.
فرنسا حاولت حماية دورها التاريخي في لبنان عبر الدفاع عن استمرار القوة، لكنها في النهاية رضخت للإصرار الأميركي، فاكتفت بتمديد قصير المدى لتفادي انهيار الاستقرار دفعة واحدة.
إسرائيل استقبلت القرار بنوع من الترحيب المشوب بالحذر. فهي طالما انتقدت “يونيفيل” لعدم قدرتها على منع حزب الله من بناء شبكة أنفاق ومخازن سلاح في الجنوب. لكنها تدرك أيضًا أن غياب القوة قد يعني انزلاقًا سريعًا نحو مواجهة مباشرة مع حزب الله من دون أي “غطاء دولي”.
لبنان الرسمي بدا في موقف دفاعي، حيث شدد رئيس الوزراء نواف سلام على أن القرار يحمّل الجيش اللبناني مسؤولية ضخمة، في وقت يعاني فيه من ضعف التمويل وانهيار البنية الاقتصادية. بالنسبة لبيروت، فإن “يونيفيل” لم تكن مجرد قوة رمزية، بل مظلة ساعدت في تخفيف الضغوط الإسرائيلية المتكررة.
الجيش اللبناني أمام تحدٍّ غير مسبوق
الانسحاب الأممي يضع الجيش اللبناني أمام استحقاق تاريخي. فمنذ اتفاق الطائف، لم يُطلب من المؤسسة العسكرية إدارة الحدود الجنوبية بمفردها. التحدي لا يتعلق فقط بالانتشار العسكري، بل أيضًا بالقدرة على ضبط الحدود ومنع الاحتكاكات المباشرة مع إسرائيل أو مع حزب الله.
لكن الواقع المالي والعسكري للجيش لا يبشر بالقدرة على مواجهة التحدي. فالمؤسسة تعاني من تراجع الرواتب، نقص في المعدات الحديثة، اعتماد مفرط على مساعدات أجنبية متقطعة، إضافة إلى انهيار الاقتصاد اللبناني منذ 2019. في ظل هذه الظروف، فإن توقع أن يحل الجيش محل “يونيفيل” يبدو أقرب إلى الرهان السياسي منه إلى خطة عملية قابلة للتنفيذ.
لا يمكن قراءة القرار بعيدًا عن موقع حزب الله. فغياب “يونيفيل” يعني تراجع عنصر رقابي دولي على نشاطاته العسكرية. الحزب سيجد نفسه في موقع أقوى داخليًا لتبرير استمرار سلاحه، بحجة حماية لبنان من إسرائيل في وقت انسحبت فيه القوات الأممية.
من زاوية أخرى، إسرائيل قد تستغل هذا الوضع لشن ضربات أكثر كثافة على الجنوب بحجة أن لا قوة دولية تراقب “الخروقات”. هذا يفتح الباب أمام احتمال التصعيد العسكري المتبادل، خصوصًا أن السنوات الأخيرة شهدت تكثيف الحزب لوجوده العسكري قرب الخط الأزرق.
أنشئت “يونيفيل” عقب الاجتياح الإسرائيلي الأول عام 1978، لتأمين انسحاب القوات الإسرائيلية ومساعدة الحكومة اللبنانية في بسط سلطتها. لكن مع اندلاع الحرب الأهلية ثم الاحتلال الإسرائيلي الطويل، تحولت القوة إلى شاهد على نزاعات متكررة دون قدرة حقيقية على التدخل.
بعد حرب يوليو 2006، توسعت مهامها بشكل غير مسبوق، حيث أُوكل إليها مراقبة وقف الأعمال العدائية، دعم الجيش اللبناني في انتشاره جنوب الليطاني، وتسيير دوريات على طول الخط الأزرق. ورغم هذه المهام، لم تتمكن القوة من منع انتهاكات يومية: إسرائيل واصلت خروقاتها الجوية والبرية، فيما واصل حزب الله تطوير قدراته العسكرية في الجنوب. هذا التناقض جعلها عرضة لانتقادات متواصلة من جميع الأطراف.
انعكاسات على المعادلة اللبنانية والإقليمية
إيران وحزب الله: مكسب استراتيجي يعزز النفوذ
بالنسبة لإيران، فإن إنهاء مهمة “يونيفيل” يمثل تطورًا استراتيجيًا يخدم مشروعها الإقليمي في لبنان. فوجود القوة الدولية كان يشكل — ولو جزئيًا — عائقًا أمام حرية حركة حزب الله العسكرية على الحدود الجنوبية. ومع بدء الانسحاب، ستزداد قدرة الحزب على إعادة تموضع قواته، ونقل الأسلحة، وتعزيز بنيته التحتية الدفاعية من دون رقابة دولية مباشرة. هذا الواقع الجديد قد يكرس الجنوب اللبناني كجبهة متقدمة لإيران في صراعها مع إسرائيل، ويمنح الحزب هامشًا أوسع لإدارة معادلة الردع على طريقته الخاصة.
إسرائيل: ذريعة إضافية للتصعيد والضغط
إسرائيل من جهتها، تنظر إلى غياب "الضامن الدولي" كنافذة لتعزيز خطابها الأمني أمام المجتمع الدولي. إذ يمكن لتل أبيب أن تستخدم غياب "يونيفيل" لتبرير أي عملية عسكرية مستقبلية في لبنان، سواء عبر اجتياح بري محدود أو تصعيد جوي واسع. فبدلاً من اتهام القوات الأممية بـ"العجز"، ستقول إسرائيل إن لا جهة دولية تراقب أو تمنع حزب الله من التحرك بحرية، وبالتالي فإن أي عملية عسكرية ستكون دفاعية في جوهرها. غير أن هذه المقاربة تحمل أيضًا مخاطر، إذ قد تجد إسرائيل نفسها في مواجهة مباشرة مع الجيش اللبناني، في حال توليه المسؤولية الأمنية منفردًا بعد الانسحاب.
الأمم المتحدة: أزمة مصداقية جديدة
على المستوى الدولي، يشكل قرار الانسحاب ضربة إضافية لمكانة الأمم المتحدة كفاعل ضامن للسلم والأمن. "يونيفيل" كانت تُعد واحدة من أطول مهام حفظ السلام في العالم وأكثرها رمزية، ورحيلها سيُقرأ باعتباره فشلًا في تثبيت الاستقرار في واحدة من أكثر مناطق النزاع حساسية في الشرق الأوسط. هذا التراجع في الدور الأممي قد يدفع دولًا أخرى في مناطق نزاع مشابهة إلى التشكيك بجدوى الاعتماد على الأمم المتحدة، ما يفتح الباب أمام مزيد من الاعتماد على ترتيبات ثنائية أو إقليمية بدلًا من الحلول الدولية.
الاتحاد الأوروبي: معضلة بين الأمن والهجرة
أما الاتحاد الأوروبي، فيجد نفسه أمام معادلة معقدة. فالقارة الأوروبية التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين والفلسطينيين، تخشى أن يؤدي انسحاب "يونيفيل" إلى تقويض استقرار لبنان، وبالتالي دفع موجات جديدة من الهجرة غير النظامية نحو شواطئها. لكن في الوقت نفسه، لا يملك الاتحاد الأوروبي أدوات ضغط عسكرية بديلة تمكنه من ملء الفراغ الأمني الذي ستتركه القوات الأممية. وهكذا سيضطر الأوروبيون إلى زيادة الدعم الاقتصادي والإنساني للبنان من جهة، مع الانخراط في مفاوضات سياسية مع الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، لتجنب تحوّل الجنوب إلى ساحة مفتوحة على حرب جديدة.
الجنوب اللبناني يدخل حقبة جديدة مع قرار إنهاء مهمة “يونيفيل”. ما كان طوال عقود منطقة مراقبة دولية يتحول تدريجيًا إلى ساحة مفتوحة على الاحتمالات كافة. وإذا كان البعض يرى أن الانسحاب الأممي قد يمنح لبنان فرصة لتعزيز سيادته عبر جيشه الوطني، فإن آخرين يحذّرون من أن هذا الانسحاب سيترك فراغًا لن يملؤه سوى السلاح، سواء كان سلاح حزب الله أو سلاح إسرائيل. وفي بلد مثقل بالأزمات، قد يكون هذا التطور بمثابة شرارة جديدة لصراع مفتوح، عنوانه الأساسي: من يملك السيطرة على الجنوب اللبناني بعد “يونيفيل”؟