تواجه إسرائيل منذ أكثر من عقد ونصف أزمة هيكلية في العلاقة بين القيادة السياسية والأجهزة الأمنية، ما يعكس صراعًا طويل الأمد بين السلطة السياسية واستقلالية الجيش، ويؤثر بشكل مباشر على القرارات العسكرية والاستراتيجية في البلاد. الصراع ليس مجرد خلاف حول غزة أو الاستيطان، بل هو مواجهة أيديولوجية وعملية تحدد مستقبل المؤسسة العسكرية، وتكشف هشاشة النظام السياسي أمام الضغوط الداخلية والخارجية.
البداية: المواجهة بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية
شرارة التوتر بدأت في 2010، حين أراد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تنفيذ ضربات ضد البرنامج النووي الإيراني. رفض الجيش الفكرة، مشيرًا إلى أن العملية ستتحول إلى حرب إقليمية واسعة، وستحتاج ميزانية هائلة ودعمًا أمريكيًا مباشرًا.
تولى وزير الدفاع حينها، إيهود باراك، موقفًا متقلبًا: في البداية أيد نتنياهو، لكنه سرعان ما انحاز للجيش، محافظًا على استقلالية المؤسسة العسكرية. خلال هذه الفترة، صُرفت ميزانية ضخمة بلغت 11 مليار شيقل للتحضير لضربات لم تُنفذ، بحسب تقارير مصادر مقربة من الحكومة السابقة.
هذا الخلاف لم يكن مجرد نزاع حول خطة محددة، بل شكل بداية صراع طويل بين الحكومة والأجهزة الأمنية، حيث حاولت السلطة السياسية التأثير على قيادة الجيش، فيما حافظ الجيش على موقف استقلالي نسبيًا، مؤكدًا على ضرورة الموازنة بين الأوامر السياسية والقدرات العسكرية الواقعية.
صعود التيار اليميني العقائدي وأثره على القرار العسكري
أدت تجربة الانسحاب من قطاع غزة عام 2005، بقيادة أرئيل شارون، إلى صعود تيار يميني عقائدي يرفض أي انسحاب مستقبلي من الضفة الغربية. خروج 21 مستوطنة بالقوة شكل صدمة للمستوطنين، ودفعتهم إلى إنشاء تيار فكري وسياسي يعزز مشروع الاستيطان ويعطل أي محاولات لإنشاء دولة فلسطينية.
أسس هذا التيار لاحقًا معهد "كوهيلت"، الذي أصبح مرجعًا فكرية للأحزاب اليمينية وللسياسات الاستيطانية. في 2017، قدم التيار خطة "الحسم" التي تهدف إلى إحباط أي محاولات لإقامة دولة فلسطينية، وتوجيه الحكومة نحو تثبيت الاستيطان والسيطرة على الجيش والأجهزة الأمنية، بما يضمن الولاء السياسي الكامل للقيادة.
هذا التوجه العقائدي السياسي أثر بشكل مباشر على العلاقة بين الحكومة والجيش، حيث تم استبعاد أو تحييد قيادات عسكرية كانت تمثل استقلالية المؤسسة، واستبدالهم بقيادات موالية للسياسة الحكومية.
التحكم في قيادة الجيش: تعيين القادة الموالين
شهدت السنوات الأخيرة تغييرات متسارعة في قيادة الجيش والأجهزة الأمنية لضمان ولاء القيادات الجديدة للسياسة الحكومية.
2023: إطاحة رئيس الأركان هيرتسي هاليفي ومدير جهاز الشاباك رونين بار بعد صدامات علنية مع وزراء التيار اليميني.
2024: تعيين إيال زامير رئيسًا للأركان، المعروف بولائه لنتنياهو، وبدأ تنفيذ عمليات عسكرية واسعة، بما فيها التصعيد في غزة.
2025: زامير يضع خططًا لاحتلال مناطق مثل رفح، لكنها تُرفض لتفادي سقوط قتلى بين المحتجزين والجنود، في حين أن التيار السياسي يريد احتلالًا أشد بطشًا.
هذه التغييرات تكشف عن استراتيجية الحكومة للسيطرة على المؤسسة العسكرية، لكنها تواجه مقاومة ضباط وجنود على الأرض، مما يزيد من صعوبة تنفيذ العمليات، ويخلق توترًا داخليًا يهدد وحدة الجيش واستقراره المؤسسي.
الأزمة الراهنة: تفكك داخلي وتهديد وحدة الجيش
يؤكد خبراء عسكريون أن الجيش الإسرائيلي يواجه تحديات تتجاوز حرب غزة، وتشمل:
ضعف معنويات الجنود وضباط الاحتياط، ورفض تنفيذ مهام عالية المخاطر بلا جدوى واضحة.
تراجع معدلات التطوع لخدمة الاحتياط، ما يزيد الفجوة بين الحاجة الميدانية والقدرة البشرية.
احتجاجات داخلية صامتة من الطيارين والجنود الذين يمتنعون عن تنفيذ مهام خطرة، الأمر الذي يشكل تهديدًا مباشرًا لاستراتيجية الحرب.
هذه المؤشرات توضح أن الأزمة أعمق من موضوع غزة، وأن الخطر الأكبر ليس العدو الخارجي فقط، بل تآكل وحدة الجيش من الداخل، وهو ما قد يكون مفتاح إنهاء العمليات العسكرية أو إعادة النظر في الاستراتيجية الحكومية.
صراع طويل الأمد بين السلطة والاستقلالية
الصراع بين القيادة السياسية والأجهزة الأمنية الإسرائيلية ليس نزاعًا مؤقتًا، بل يمثل مواجهة مستمرة على السلطة، الاستقلالية المهنية، والاستراتيجية الدفاعية للدولة. بينما تسعى الحكومة لتوجيه الجيش وفق أجندتها السياسية، يحاول الجيش الحفاظ على استقلاليته وحماية كوادره وقدراته العسكرية.
الرهانات عالية: استمرار هذا النزاع قد يؤدي إلى أزمة مؤسسية تهدد وحدة الجيش واستراتيجياته الدفاعية، وقد يفرض قيودًا على قدرة الحكومة على تنفيذ عمليات عسكرية، ما يجعل الصراع السياسي-العسكري الإسرائيلي أحد أهم عوامل الاستقرار الداخلي ومستقبل القرار الاستراتيجي في البلاد.