رهان غامض في الشمال الشرقي السوري

سامر الخطيب

2025.08.28 - 10:48
Facebook Share
طباعة

 رغم تصاعد حدة التصريحات من دمشق وأنقرة بشأن احتمال شن عملية عسكرية واسعة ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، لا تزال هذه القوات تماطل في تنفيذ اتفاق العاشر من مارس/آذار، الذي كان من المفترض أن يفتح الباب أمام إدماجها في مؤسسات الدولة وتخفيف التوتر في شمال شرقي سوريا. الاتفاق الذي بدا لحظة توقيعه فرصة لترسيخ الاستقرار، سرعان ما دخل في مرحلة جمود، وسط اتهامات متبادلة بالتنصل والمماطلة، واتهام قسد بأنها تراهن على موازين إقليمية ودولية لصالحها.


مراوغة سياسية أم حسابات أوسع؟
ينظر مراقبون إلى موقف قسد باعتباره انعكاساً لإستراتيجية تقوم على كسب الوقت، فالتنصل من الالتزامات لا يعبّر فقط عن خلافات حول التفاصيل، بل عن محاولة لبناء نفوذ أوسع شمال شرقي البلاد. إذ ترى بعض الأطراف أن قسد تراهن على أن التهديدات السورية والتركية ستبقى في إطار الكلام، أو أنها ستتحول إلى عمليات محدودة لا تقوّض بنيتها العسكرية والسياسية.


استثمار لحظة الاضطراب
الأحداث التي شهدتها السويداء مؤخراً مثّلت فرصة حاولت قسد استثمارها. فبينما انشغلت دمشق بمواجهة تلك التطورات، سعت قسد إلى فرض وقائع جديدة في الشمال الشرقي، سواء عبر خطوات سياسية أو تحركات عسكرية، في محاولة لتعزيز أوراقها التفاوضية. هذا التوجه أثار قلقاً تركياً متزايداً، تجلّى في تحذيرات صريحة بأن أي محاولة لاستغلال الفوضى قد تدفع نحو مواجهة مباشرة.


تشابك الولاءات
جزء كبير من مأزق قسد لا يرتبط فقط باتفاق مارس، بل بطبيعة بنيتها الداخلية. فالقرار داخلها ليس موحّداً، بل موزعاً بين أجنحة ذات خلفيات أيديولوجية مختلفة، بعضها مرتبط بجهات إقليمية عابرة للحدود. هذا التشابك يجعل التوصل إلى قرار سياسي أو عسكري جامع أمراً معقداً، ويقوّض أي إمكانية للاندماج الكامل في مؤسسات الدولة.


كما تتهم دمشق قسد بأنها تمارس سياسات تغيّر التوازن الديمغرافي في بعض المناطق، وتستخدم المؤتمرات والفعاليات كغطاء لتجنب استحقاقات الاتفاق، وهو ما يعمّق فجوة الثقة بين الطرفين.


رهانات على التدخل الخارجي
لا تنفصل حسابات قسد عن شبكة أوسع من التدخلات الدولية. فبعض التحليلات ترى أنها تراهن على ضغوط غربية وإقليمية لمنع تنفيذ أي عمل عسكري واسع ضدها. ويرى مراقبون أن وجود أطراف غربية، إضافة إلى إسرائيل، يمنح قسد شعوراً بأنها ليست مضطرة لتقديم تنازلات حالياً.


ومن هنا، فإن انسحاب دمشق من مسارات تفاوضية برعاية أوروبية مؤخراً يعكس قناعة بأن قسد توظف هذه القنوات لمراكمة الشرعية السياسية وليس للتوصل إلى حلول عملية.


ساعة المواجهة؟
في ظل هذا المشهد، تتواتر تقارير عن استعدادات عسكرية واسعة قد تبدأ في الخريف، بهدف استعادة السيطرة على الرقة ودير الزور. الحديث يدور عن حشود كبيرة، مدعومة من العشائر العربية، وهو ما قد يعيد رسم خريطة السيطرة في شرق سوريا. لكن هذا السيناريو يصطدم بتعقيدات عدة؛ فالمعادلة الإقليمية والدولية لا تسمح بسهولة بتحرك عسكري بهذا الحجم.


تركيا من جانبها تراقب الموقف بحذر، وترى أن استمرار المماطلة يهدد الأمن القومي، فيما تلمّح دمشق إلى أن إسرائيل كانت حاضرة في مشهد الاضطرابات بالجنوب، ما يزيد الشكوك حول ارتباط المسارات في الشمال والجنوب على حد سواء.


واشنطن والقرار الحاسم
يبقى الموقف الأميركي العامل الأكثر حسماً. فمن جهة، تعتبر واشنطن قسد شريكها الأساسي في الحرب ضد تنظيم الدولة، وقد أنفقت مليارات الدولارات على تدريبها وتسليحها. ومن جهة أخرى، تواجه الإدارة الأميركية ضغوطاً من حلفاء إقليميين لرفع الغطاء عن هذا التحالف.


المعضلة بالنسبة لواشنطن تكمن في الموازنة بين حماية حليفها المحلي وبين تجنب مواجهة مفتوحة مع دمشق وأنقرة. التقديرات ترجّح أن الولايات المتحدة لن تسمح بانهيار كامل لقسد، لكنها قد تتساهل مع عمليات محدودة النطاق، شبيهة بما حدث في عمليات عسكرية سابقة شمال سوريا.


خريطة معقدة
إزاء هذه التعقيدات، تبدو قسد عالقة بين تناقضات داخلية وصراعات إقليمية وضغوط دولية. فهي لا تستطيع المضي بعيداً في الاندماج مع دمشق خشية خسارة نفوذها، ولا تملك في الوقت ذاته ضمانات طويلة الأمد من القوى الخارجية. هذه المراوحة تمنحها بعض المكاسب المؤقتة، لكنها تفتح الباب في الوقت ذاته أمام احتمالات مواجهة قد تكون الأعنف منذ سنوات.


الرهان الذي تقوم به قسد يبدو قائماً على خيط رفيع: الموازنة بين الاستفادة من الدعم الخارجي وبين تجنب الانهيار الداخلي. غير أن هذا الرهان محفوف بالمخاطر، فالتقاطع بين المصالح السورية والتركية، والضغوط الإقليمية، وحسابات واشنطن، كلها عوامل تجعل هامش المناورة محدوداً. ومع كل يوم يمر من دون تنفيذ اتفاق مارس، تتعاظم فرص انفجار مواجهة قد تغيّر ملامح المشهد السوري بأسره.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 2 + 6