في خطوة أثارت جدلاً واسعًا داخل الأوساط التقنية والحقوقية، أقدمت شركة "مايكروسوفت" على فصل اثنين من موظفيها بعد مشاركتهما في اعتصام داخل مكتب رئيس الشركة براد سميث، احتجاجًا على استمرار تعاون الشركة مع إسرائيل في ظل الحرب على غزة.
وقالت الشركة، عبر متحدث باسمها، إن القرار جاء نتيجة ما وصفته بـ"انتهاكات خطيرة لسياسات الشركة ومدونة السلوك"، مشيرة إلى أن الاعتصام الذي نظمه الموظفون اعتُبر "اقتحامًا لمكاتب الإدارة التنفيذية".
وبحسب بيان صادر عن مجموعة الاحتجاج "No Azure for Apartheid"، فإن الموظفتين آنا هاتل وريكي فاميلي تلقتا رسائل صوتية رسمية تبلغ بفصلهما من العمل. وكانت هاتل وفاميلي ضمن سبعة أشخاص اعتقلوا الثلاثاء الماضي إثر الاعتصام، بينهم موظفون سابقون بالشركة ومتضامنون من خارجها.
في تصريحاتها، قالت هاتل إن "مايكروسوفت تواصل تزويد إسرائيل بالأدوات اللازمة لارتكاب إبادة جماعية، بينما تضلل موظفيها وتخفي عنهم هذه الحقيقة"، فيما طالبت المجموعة بقطع التعاون مع إسرائيل وتقديم تعويضات للفلسطينيين.
وبرغم الضغوط، شدد رئيس الشركة براد سميث على أن "مايكروسوفت تحترم حرية التعبير، ما دامت تُمارس في إطار قانوني".
الجدل تفاقم بعد نشر تحقيق مشترك أجرته صحيفة الغارديان والمجلة الفلسطينية-الإسرائيلية "+972" وموقع Local Call، كشف أن وكالة مراقبة عسكرية إسرائيلية تستخدم برنامج "Azure" السحابي التابع للشركة لتخزين كميات هائلة من مكالمات الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ضمن منظومة مراقبة واسعة النطاق.
مايكروسوفت ردت بأنها استعانت بمكتب المحاماة "Covington & Burling LLP" لإجراء مراجعة داخلية حول طبيعة تعاونها، لكن ذلك لم يوقف سلسلة الاحتجاجات داخل الشركة. ففي أبريل الماضي، قاطع أحد الموظفين كلمة الرئيس التنفيذي لقسم الذكاء الاصطناعي مصطفى سليمان خلال احتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الشركة، قبل أن يتم فصله مع موظف آخر شارك في التحرك.
التكنولوجيا الأميركية بين الضغوط الحقوقية والمصالح السياسية
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، واجهت شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى ضغوطًا متزايدة من موظفيها ومنظمات حقوقية بسبب تعاونها المباشر أو غير المباشر مع المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.
غوغل وأمازون تحت المجهر
أحد أبرز الأمثلة كان مشروع "نيمبوس" (Project Nimbus)، وهو عقد ضخم مشترك بين "غوغل" و"أمازون" لتزويد الحكومة الإسرائيلية بخدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. هذا المشروع أثار موجة احتجاجات متواصلة داخل الشركتين، حيث أصدر مئات الموظفين عرائض داخلية، نظموا اعتصامات، بل واستقال بعضهم احتجاجًا على ما وصفوه بـ"مشاركة في جرائم حرب".
في أبريل 2024، اعتقلت الشرطة الأميركية عدداً من موظفي "غوغل" بعد تنظيمهم اعتصاماً داخل مكاتب الشركة في نيويورك وكاليفورنيا، اعتراضًا على استمرار تنفيذ عقد "نيمبوس". ورغم هذه التحركات، أصرت إدارتا "غوغل" و"أمازون" على أن العقود موجهة "للاستخدامات المدنية" وليست مرتبطة بالأنشطة العسكرية المباشرة، وهو تبرير لم يخفف من الانتقادات.
بيئة متوترة داخل وادي السيليكون
هذه التحركات كشفت عن شرخ متزايد بين إدارات الشركات والكوادر التقنية الشابة التي ترى أن شركاتها "تتواطأ مع الاحتلال الإسرائيلي" عبر توفير أدوات تقنية متقدمة تُستخدم في المراقبة، التجسس، وحتى العمليات العسكرية.
اللافت أن معظم هذه الشركات، بما فيها "مايكروسوفت"، تروج علنًا لشعارات "الحياد التكنولوجي" و"التزام حقوق الإنسان"، لكنها عمليًا تجد نفسها أمام انتقادات بأنها تخدم أجندات سياسية وأمنية تتعارض مع هذه القيم.
الجدل حول "مايكروسوفت" و"أزور" لا ينفصل عن سياق أوسع يتعلق بدور التكنولوجيا في الحروب الحديثة. فالحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة باتت عناصر أساسية في إدارة الصراعات، ما يجعل من الشركات التكنولوجية الكبرى طرفًا غير مباشر في النزاعات.
كما أن الضغط من الداخل الأميركي يتقاطع مع ضغوط دولية، إذ باتت منظمات حقوقية أوروبية وأممية تنتقد بشدة ما تصفه بـ"التواطؤ التكنولوجي" مع الاحتلال الإسرائيلي.
إسرائيل و"وادي السيليكون".. شراكة ممتدة تتجاوز الاقتصاد
لم تكن علاقة إسرائيل بشركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى مجرد تعاون تجاري، بل تحولت على مدى العقود الماضية إلى شراكة استراتيجية متجذرة. فمنذ تسعينيات القرن الماضي، عملت تل أبيب على جذب الشركات الأميركية العملاقة لافتتاح مراكز أبحاث وتطوير داخل إسرائيل، حتى صارت توصف بـ"وادي السيليكون الثاني". هذه المراكز لا تقتصر على تطوير تطبيقات مدنية، بل ترتبط في كثير من الأحيان بقدرات الأمن السيبراني والاستخبارات العسكرية، ما جعل الحدود بين "التكنولوجيا" و"الأمن" شبه غائبة في الحالة الإسرائيلية.
مراكز بحث أميركية في خدمة الصناعات الأمنية الإسرائيلية
شركات مثل مايكروسوفت، غوغل، آبل، إنفيديا وغيرها، تستثمر مليارات الدولارات في السوق الإسرائيلية، وتشغل آلاف المهندسين، كثير منهم ذوو خلفيات عسكرية. هذا التداخل خلق شبكة مصالح معقدة، حيث يستفيد الاحتلال من التكنولوجيا الأميركية المتقدمة لتعزيز قدراته الاستخباراتية، فيما ترى الشركات في إسرائيل حاضنة للابتكار ومصدرًا للأرباح، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة.
واشنطن: العقود جزء من الأمن القومي المشترك
بالنسبة للإدارات الأميركية المتعاقبة، تمثل العقود الضخمة مثل مشروع "نيمبوس" (غوغل وأمازون) أو خدمات "أزور" (مايكروسوفت) جزءًا من التحالف الأمني الأميركي–الإسرائيلي. واشنطن تعتبر أن دعم البنية التكنولوجية لإسرائيل يندرج ضمن استراتيجيتها لمواجهة خصومها الإقليميين، وعلى رأسهم إيران وحركات المقاومة في المنطقة. لذلك، يُنظر إلى هذه العقود ليس كصفقات تجارية فحسب، بل كـ"أدوات قوة" في إطار التوازنات الإقليمية.
التكنولوجيا في قلب النزاعات المسلحة
تكشف هذه الخلفية أن ما يسمى بـ"الحياد التكنولوجي" لم يعد قائمًا، إذ أصبحت الخدمات السحابية والذكاء الاصطناعي مكونات أساسية في إدارة الحروب الحديثة. بالنسبة لإسرائيل، تمثل هذه الأدوات قدرة حاسمة على المراقبة، تتبع الأفراد، تحليل الاتصالات، وتوجيه العمليات العسكرية. وبذلك، تتحول الشركات الأميركية العملاقة – بقصد أو بغير قصد – إلى شريك غير مباشر في النزاع، وهو ما يفسر تصاعد الغضب الحقوقي داخل الولايات المتحدة وخارجها.
احتجاجات الموظفين بين القيم والمصالح
على الرغم من الاحتجاجات المتكررة داخل "غوغل" و"أمازون" و"مايكروسوفت"، لم تُبدِ واشنطن أي رغبة في الضغط على هذه الشركات لوقف تعاونها مع إسرائيل. الإدارات الأميركية – سواء الديمقراطية أو الجمهورية – ترى أن الحفاظ على هذه العقود يمثل خطًا أحمر في إطار حماية التحالف مع تل أبيب. وهذا ما يجعل الشركات أكثر ثباتًا في مواجهة ضغوط موظفيها، مستندة إلى غطاء سياسي قوي يضمن لها الاستمرار.
فرص محدودة لنجاح الحراك الداخلي
بالمحصلة، فإن الاحتجاجات التي يشهدها وادي السيليكون تكشف عن شرخ عميق بين إدارات الشركات وقواعدها من الموظفين، لكنها في الوقت نفسه تواجه تحديات هائلة بسبب تداخل التكنولوجيا مع السياسة والأمن القومي. ما يعني أن فرص نجاح هذا الحراك في فرض تغيير جذري على عقود بمليارات الدولارات تبقى محدودة، إلا إذا ترافقت مع ضغوط سياسية أو حقوقية أوسع على مستوى دولي.