منذ أربعة عقود، ظهرت وثيقة إسرائيلية تحمل رؤى شديدة الخطورة حول مستقبل الشرق الأوسط. الوثيقة التي عُرفت بـ"خطة ينون" نُشرت للمرة الأولى عام 1982 في مجلة كيفونيم (اتجاهات) التابعة للمنظمة الصهيونية العالمية، كتبها عوديد ينون، الصحفي والدبلوماسي الإسرائيلي الذي عمل مستشاراً لرئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون، كما شغل منصباً في وزارة الخارجية الإسرائيلية.
لم تكن الخطة مجرد دراسة نظرية، بل وُصفت بأنها حجر أساس في التفكير الإستراتيجي الإسرائيلي تجاه المنطقة، إذ استندت إلى أطروحات قديمة تعود إلى ثيودور هرتزل، الحاخام فيشمان، وشخصيات بارزة أسست المشروع الصهيوني أواخر الأربعينيات. أعيد نشر الوثيقة لاحقاً على موقع مركز دراسات العولمة الأميركي (غلوبال ريسيرش) في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بعد ترجمتها للإنجليزية، واعتبر الباحث ميشيل شوسودوفسكي أنها تمثل المرجع الأكثر وضوحاً لرؤية إسرائيل في إعادة تشكيل الشرق الأوسط.
السياق التاريخي
ظهرت الخطة في وقت كانت المنطقة تمر بتحولات كبرى:
توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل (1979).
انتصار الثورة الإيرانية (1979) وما تبعها من تبدل في التوازن الإقليمي.
اندلاع الحرب العراقية–الإيرانية (1980–1988).
ثم الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
في هذا المناخ المتوتر، طرح ينون رؤيته حول مستقبل الشرق الأوسط، والتي تقوم على إعادة رسم الخريطة السياسية عبر تقسيم الدول الكبرى إلى كيانات طائفية وعرقية أصغر، بما يضمن لإسرائيل تفوقاً إستراتيجياً طويل الأمد، ويجعلها القوة المهيمنة وسط فسيفساء من الدويلات المتناحرة.
مضمون خطة ينون
ركزت الوثيقة على نقاط أساسية:
تفكيك الدول المركزية مثل سوريا والعراق ومصر إلى كيانات طائفية أو إثنية (سنّة، شيعة، أكراد، دروز، نصارى، إلخ).
إشعال الانقسامات الداخلية وصناعة صراعات مزمنة بين مكوّنات المجتمعات العربية والإسلامية، مما يجعلها غارقة في نزاعاتها الداخلية.
إعادة صياغة التوازن الجيوسياسي عبر إضعاف جميع القوى المحيطة، بحيث تتحول إلى بيئة هشة غير قادرة على مواجهة إسرائيل.
التحالف مع الأقليات ودعمها سياسياً وعسكرياً، لتكون أوراق ضغط على الأغلبية، وفي الوقت ذاته جسوراً لتحقيق المصالح الإسرائيلية.
الرؤية التوسعية: إسرائيل الكبرى
ترتبط خطة ينون بما يُعرف بمشروع إسرائيل الكبرى، وهو مشروع توسعي يتجاوز حدود فلسطين التاريخية ليشمل أجزاء واسعة من دول الجوار:
جنوب لبنان وسوريا.
الأردن.
مناطق من العراق.
سيناء في مصر.
شمال الجزيرة العربية.
الفكرة ليست جديدة؛ إذ تعود جذورها إلى الحقبة الاستعمارية البريطانية، لكن الخطة جاءت لتمنحها إطاراً عملياً.
نتنياهو و"القرن المئوي لإسرائيل"
في أغسطس/آب 2025، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صراحةً دعمه لرؤية "إسرائيل الكبرى"، واصفاً إياها بأنها مشروع توراتي يستند إلى الموروث التلمودي. وكان نتنياهو قد صرّح سابقاً بأنه يطمح إلى قيادة إسرائيل نحو ما سماه "قرنها المئوي"، وهو ما أكده في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر/أيلول 2023 عندما عرض خريطة لإسرائيل تتضمن الضفة الغربية وقطاع غزة.
اليمين الإسرائيلي وتوسيع الأطروحة
لم يقتصر الطرح على نتنياهو؛ بل تبناه أيضاً قادة من اليمين المتشدد، ومن أبرزهم بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب "البيت اليهودي". ففي عام 2016، وأثناء عمله في الكنيست، صرّح بأن حدود إسرائيل يجب أن تمتد لتشمل دمشق وأراضي ست دول عربية (سوريا، لبنان، الأردن، العراق، جزء من مصر، وأجزاء من السعودية)، معتبراً ذلك تحقيقاً للحلم الصهيوني "من النيل إلى الفرات".
وفي مارس/آذار 2023، أعاد سموتريتش تكرار هذا الطرح خلال خطاب له في باريس، حيث وقف على منصة تحمل خريطة تشير إلى أن "أرض إسرائيل" تشمل فلسطين والأردن معاً.
الجذور الدينية للمشروع
تستند خطة ينون والرؤى التوسعية المشابهة إلى معتقدات دينية تدّعي أن الأرض الموعودة تمتد "من نهر النيل إلى نهر الفرات".
الزعيم الصهيوني هرتزل تحدث عام 1904 عن "إسرائيل الكبرى" بهذا المفهوم.
معهد "التوراة والأرض" الإسرائيلي لا يزال حتى اليوم يروج لهذه الرؤية، مؤكداً على امتداد الأرض الموعودة من الفرات شرقاً إلى النيل جنوباً.
هذه المقولات حملتها الحركة الصهيونية منذ بدايتها، وغذت بها خطابها السياسي والعقائدي، لتبرير سياسات الاحتلال والتوسع.
قراءة في أبعاد الخطة
تكمن خطورة خطة ينون في أنها لم تبقَ مجرد نص منسي في مجلة إسرائيلية قبل أربعة عقود، بل تحولت إلى منهج سياسي وعسكري انعكس في سياسات إسرائيل لاحقاً:
تفتيت المجتمعات العربية عبر تغذية الصراعات الطائفية.
الاستفادة من انهيار الدولة الوطنية في العراق وسوريا بعد عام 2003.
دعم مشاريع التطبيع والتقسيم التي تضعف الموقف العربي الموحد.
ويذهب محللون إلى أن ما نشهده اليوم في المنطقة – من حروب داخلية وانقسامات إثنية – يصب في صميم الأهداف التي رسمتها خطة ينون.
الخلاصة
إن خطة ينون ليست مجرد وثيقة تاريخية، بل مشروع مستمر يعكس توجهات إسرائيل منذ نشأتها.
هي رؤية تهدف إلى إضعاف العالم العربي وتفكيكه إلى كيانات عاجزة، مقابل تمكين إسرائيل لتكون القوة المهيمنة الوحيدة.
تصريحات نتنياهو وسموتريتش في السنوات الأخيرة، وإعادة استحضار خطاب "إسرائيل الكبرى"، تؤكد أن هذه الرؤية لا تزال حية ومؤثرة في صناعة القرار الإسرائيلي.
وبينما يرى البعض أن الخطة مجرد ورقة قديمة، فإن الواقع يشير إلى أن سياسات التفتيت والتوسع تُمارس اليوم على الأرض، بشكل مباشر أو غير مباشر، لتقود المنطقة إلى سيناريو أقرب ما يكون إلى "الخريطة الخفية" التي رسمها ينون قبل أكثر من أربعين عاماً.