إسرائيل تخسر معركة الرواية: مذبحة ناصر الطبي تكشف قتل الحقيقة مرتين
لم تكن مجزرة مجمع ناصر الطبي في خان يونس مجرد جريمة جديدة تضاف إلى سجل الحرب الإسرائيلية على غزة، بل تحولت سريعاً إلى فضيحة سياسية وإعلامية لإسرائيل. فبينما حاولت تل أبيب تسويق قصفها بأنه «استهداف لعناصر مسلحة»، تكشّف سريعاً أن الأسماء التي قدمتها تعود لضحايا قُتلوا في أماكن وأزمنة مختلفة، وبعضهم كان قد أُعلن مقتله قبل يومين. هذا التناقض فجّر جدلاً واسعاً حول آليات صنع القرار العسكري الإسرائيلي ودرجة التلاعب الممنهج بالمعلومات لتبرير استهداف المدنيين.
بيان الجيش الإسرائيلي ادعى اغتيال ستة عناصر من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» خلال الهجوم على مجمع ناصر. لكن التمحيص السريع أظهر أن ثلاثة على الأقل من هؤلاء القتلى سقطوا في غارات سابقة أو في أماكن أخرى. هذا التناقض لا يعد مجرد خطأ معلوماتي، بل يعكس — بحسب خبراء — إستراتيجية بروباغندا متعمدة: صناعة «انتصارات وهمية» لتبرير مجازر ميدانية أمام الرأي العام الدولي والإسرائيلي.
استهداف الصحافيين كسياسة ممنهجة
تسلسل الهجوم يكشف عن نمط واضح: قصف استهدف الصحافي حسام المصري أولاً، ثم ضربة ثانية وجهت نحو المسعفين والصحافيين الذين تجمعوا لإنقاذه. النتيجة: خمسة صحافيين قتلى، بينهم متعاقدون مع وكالات عالمية كـ«رويترز». هذا المشهد يضع إسرائيل أمام تهمة مباشرة باستهداف الإعلام، في وقت تحاول فيه التغطية على وقائع الحرب الميدانية، ما يجعل الحديث عن «حادث عرضي» غير مقنع سياسياً ولا أخلاقياً.
الكاميرا التي فضحت الرواية
إصرار الجيش الإسرائيلي على الاستناد إلى كاميرا مراقبة داخلية في المستشفى كمصدر «دليل» يعكس ضعف الأدلة الميدانية. الكاميرا، كما أوضحت المصادر الفلسطينية، مجرد وسيلة أمنية داخلية بمدى قصير لا يتجاوز حدود المجمع. الترويج لها كأداة «تجسس» يقوض مصداقية البيان الإسرائيلي، ويكشف محاولة لتلفيق سيناريو أمني يخدم قرار القصف.
المجزرة جاءت في وقت تعاني فيه حكومة نتنياهو من ضغوط داخلية بسبب طول أمد الحرب وتعاظم الخسائر. وفي مثل هذه اللحظات، يصبح إنتاج «بطولات وهمية» ضرورة سياسية لرفع معنويات الداخل الإسرائيلي. لكن هذه المرة، التناقض الفاضح بين البيان الإسرائيلي وشهادات الميدان قلب المعادلة، فبدلاً من أن تتحول العملية إلى «إنجاز عسكري»، أصبحت مادة دسمة لاتهام إسرائيل بالكذب والتضليل المتكرر.
سجل إسرائيل في حرب غزة يزخر بأمثلة مشابهة: بيانات سريعة عن اغتيال قادة ميدانيين من «القسام» أو «الجهاد»، لتتراجع لاحقاً بعد تكشف الحقائق. هذه السياسة ليست جديدة؛ فقد اعتمدتها تل أبيب منذ الانتفاضة الثانية، حين كان الإعلان عن «نجاحات عسكرية» ضرورياً للحفاظ على صورة الردع. الجديد اليوم أن حجم الدمار الموثّق لحظة بلحظة عبر الصحافيين ووسائل الإعلام العالمية يجعل تزييف الحقائق أكثر صعوبة.
تحولت مجزرة ناصر الطبي من جريمة حرب إلى أزمة رواية بالنسبة لإسرائيل. فالتناقض بين ما تقوله تل أبيب وما تثبته الوقائع الميدانية ألقى الضوء على سياسة «قتل الحقيقة مرتين»: مرة بالقصف ومرة بالبيانات العسكرية. وإذا كانت إسرائيل تراهن على إغراق العالم في روايتها الرسمية، فإن مشهد الصحافيين القتلى وأسماء الموتى التي يُعاد إعلان اغتيالهم، يهدد بتحويل هذه الحرب إلى كارثة سياسية وإعلامية تفقدها ما تبقى من شرعية دولية.