رغم استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بدأ النقاش داخل المؤسسات الغربية والأوساط البحثية حول السيناريوهات المحتملة لما بعد الحرب التي بدأت بعملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023 تسعى هذه السيناريوهات لتقديم تصورات حول مستقبل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ومسار التسوية السياسية في ضوء المعطيات الجديدة، لكنها تتناقض مع الواقع الراهن على الأرض، خاصة مع استمرار القصف الإسرائيلي، سقوط آلاف الضحايا من المدنيين، تهجير آلاف آخرين، وتدمير واسع للبنية التحتية في القطاع.
الرؤى الغربية حول إدارة غزة بعد الحرب
تركز الرؤية الأمريكية على تشكيل إدارة مؤقتة للقطاع تمهيدًا لعودة السلطة الفلسطينية لاحقًا. وتشمل هذه الإدارة المؤقتة تكنوقراط فلسطينيين من غزة والضفة الغربية والشتات، إضافة إلى شخصيات محلية من بلديات القطاع وعشائره، لتتولى إدارة الشئون المدنية في القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والنقل والقضاء والرعاية الاجتماعية. في الوقت نفسه، تستمر وكالة الأونروا في تقديم خدماتها الغذائية والتعليمية والصحية بنفس المستويات السابقة دون زيادة أو نقصان. كما تشمل الرؤية الأمريكية إنشاء جهاز أمني بقيادة الدول العربية الموقعة على اتفاقيات سلام مع إسرائيل، بالإضافة إلى تشكيل تحالف دولي لإعادة الإعمار والتنمية، على أن تتولى الإمارات قيادة هذا الجهد بمشاركة السعودية، بهدف الحفاظ على فرص مشروع التطبيع بين الرياض وتل أبيب بعد الحرب. ويرتبط نجاح هذه الإدارة المؤقتة بإصلاح السلطة الفلسطينية، الذي يُفترض أن يعزز الثقة الفلسطينية والدولية في قدرتها على إدارة القطاع لاحقًا، رغم عدم وضوح تفاصيل عملية الإصلاح والجدول الزمني المحدد لها.
تركز الرؤية الأوروبية على تدويل الإدارة الأمنية للقطاع وإنشاء قوة دولية لضمان القضاء على حماس ومنع عودتها إلى بناء ترسانتها العسكرية. كما تؤكد على أهمية إقامة سلطة فلسطينية واحدة تشمل غزة، مع ضمان تقليص الوجود الإسرائيلي في القطاع، ومنع التهجير القسري للسكان، وتوفير مقومات اقتصادية لدولة فلسطينية مستقبلية. وقد اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون توسيع التحالف الدولي لمحاربة حماس ضمن إطار أوسع مشابه لتحالف مكافحة داعش.
الرؤية الإسرائيلية لمستقبل القطاع
تتمحور الرؤية الإسرائيلية حول القضاء على حماس والسيطرة الأمنية الشاملة على غزة بعد الحرب، وإعادة احتلال القطاع بشكل جزئي أو كامل حسب الحاجة، مع احتمالات إعادة بناء المستوطنات التي أزيلت في 2005. وتشمل الرؤية تنفيذ مخططات لنقل السكان المدنيين من القطاع إلى سيناء أو دول أخرى مثل تركيا وقطر والسعودية والإمارات، مع توفير الدعم المالي أو استضافة اللاجئين على المدى الطويل. هذه الرؤية مدفوعة بالتيارات اليمينية المتطرفة في إسرائيل، وتستهدف منع أي دور للسلطة الفلسطينية بما يقطع الطريق على خيار حل الدولتين، ويركز على الحفاظ على مصالح إسرائيل الداخلية وأجندتها التوراتية التي يطرحها اليمين المتطرف.
مظاهر الخلل ومعوقات التطبيق
تشير القراءة الدقيقة لهذه السيناريوهات إلى أنها متناقضة وغير واقعية، ويصعب تطبيقها على الأرض. هناك تعارض واضح بين الرؤى الغربية والإسرائيلية، خاصة فيما يتعلق بالسيطرة الأمنية على القطاع، حيث ترفض إسرائيل نقل السيطرة إلى قوات دولية حتى لفترة مؤقتة. كما يظهر الانقسام داخل الحكومة الإسرائيلية بين من يطالب بالسيطرة الكاملة على القطاع وإعادة المستوطنات وبين من يقترح إنهاء المشاركة الإسرائيلية في إدارة الحياة المدنية بعد الحرب، بما يعكس صعوبة تحقيق توافق داخلي. كذلك، ترفض السلطة الفلسطينية قبول أي إدارة للقطاع خارج إطار سياسي شامل يشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية، خشية فقدان الشرعية أمام الشعب الفلسطيني. على المستوى الإقليمي، ترفض الدول العربية الرئيسية مثل مصر والأردن أي خطط تهجير قسري لسكان القطاع، وهو موقف يؤثر بشكل مباشر على الموقف الدولي ويجعل تنفيذ هذه السيناريوهات أكثر صعوبة.
تظهر هذه الديناميكيات بوضوح في الاستطلاعات الإسرائيلية الأخيرة التي تعكس انقسام الرأي العام حول مستقبل غزة، حيث يختلف الرأي حول استمرار السيطرة الإسرائيلية مقابل نقل السلطة إلى إطار دولي أو إعادة السلطة الفلسطينية، بينما يظل خيار حل الدولتين محل رفض شبه كامل من التيار اليميني المتطرف. وبالنظر إلى مواقف السلطة الفلسطينية والدول العربية، يتبين أن أي محاولة لتطبيق إدارة مؤقتة أو إعادة توطين قسري ستواجه رفضاً واسعاً داخليًا ودولياً.
في ذات السياق تأتي السيناريوهات المطروحة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل لما بعد حرب غزة تتسم بالتناقض والتباين مع الواقع، وتعكس صعوبة تحويلها إلى واقع عملي على الأرض. تركز الرؤية الإسرائيلية على السيطرة الأمنية ومنع عودة السلطة الفلسطينية، بينما تسعى الرؤى الغربية إلى إعادة تنظيم السلطة الفلسطينية وفرض إطار دولي مؤقت لإدارة القطاع، وهو ما يصطدم بمواقف السلطة الفلسطينية والدول العربية وواقع الصراع على الأرض. هذه السيناريوهات، وفق ما تشير إليه ورقة بحثية صادرة عن مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، تعكس تحديات جسيمة أمام إيجاد حل سياسي مستدام في غزة، وتؤكد أن مستقبل القطاع بعد الحرب سيظل مفتوحًا على صراعات سياسية وأمنية طويلة ومعقدة.