مع بزوغ فجر الثلاثاء 26 أغسطس/آب 2025، تحولت شوارع تل أبيب وعدة مدن إسرائيلية إلى مسرح لاحتجاجات متزامنة قادتها عائلات الرهائن المحتجزين في غزة. البداية جاءت عند الساعة 6:29 صباحاً، وهو التوقيت ذاته الذي شنت فيه حركة حماس هجومها في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذا الاختيار لم يكن صدفة، بل رسالة رمزية تهدف إلى تذكير الحكومة والرأي العام باللحظة التي فجّرت الحرب الحالية وما تبعها من مأساة إنسانية لعشرات العائلات التي ما زالت تنتظر عودة أبنائها.
إغلاق شرايين تل أبيب وشلل مروري متعمد
أولى صور التحرك الشعبي تجلت في إغلاق طريق أيالون السريع – أحد أهم شرايين النقل في إسرائيل – حيث جلس المتظاهرون على الأرض ورفعوا الأعلام الإسرائيلية ولافتات تحمل شعارات تطالب بالإفراج الفوري عن الرهائن. تعطيل الحركة المرورية لم يكن مجرد وسيلة ضغط لوجستية، بل شكل أيضاً صرخة احتجاجية تهدف إلى لفت أنظار المجتمع الدولي، وإظهار أن الأزمة لم تعد محصورة بين الحكومة وعائلات الرهائن، بل باتت أزمة وطنية تعطل حياة الإسرائيليين اليومية.
انتشار الاحتجاجات في أنحاء البلاد
في السابعة صباحاً، تحولت المبادرة إلى حركة واسعة، إذ شهدت التقاطعات الرئيسية في مختلف المدن مظاهرات متزامنة أربكت حركة السير في الشمال والجنوب والوسط. ومع ساعات الظهيرة، استعدت مدن كبرى مثل حيفا وبئر السبع لمسيرات جديدة، في وقت حُددت فيه تل أبيب كمركز رئيسي للفعاليات. هذه الاستراتيجية اللامركزية عكست محاولة من المنظمين لجعل صوتهم مسموعاً في كل بيت إسرائيلي، وإيصال رسالة بأن ملف الرهائن لا يمكن أن يبقى على هامش الأولويات الحكومية.
برنامج يوم كامل من التحركات
المخطط الاحتجاجي لم يقتصر على الصباح، بل صُمم ليغطي اليوم بأكمله. حيث أُعلن عن تنظيم مظاهرات في تل أبيب طيلة النهار، على أن تُختتم التحركات بمسيرة كبرى تنطلق مساءً من محطة قطار سافيدور وصولاً إلى ساحة الرهائن، حيث يقام التجمع الختامي. هذا التنظيم يهدف إلى إبقاء الضغط متواصلاً على الحكومة والإعلام، وضمان حضور جماهيري مكثف في ساعات المساء حين تزداد التغطية الإعلامية.
خلال الاحتجاجات، برزت شهادات العائلات التي طالبت بوقف المماطلة الحكومية في إنجاز صفقة تبادل. عائلات الرهائن ترى أن الحكومة تتعامل مع الملف كأداة سياسية ضمن المساومات الإقليمية، بينما يظل أبناؤهم رهائن مجهولي المصير منذ ما يقارب العامين. هذا البعد الإنساني أضفى على المشهد بعداً أخلاقياً وأعطى زخماً إضافياً للحركة الاحتجاجية، التي نجحت في كسب تعاطف شرائح واسعة من الشارع الإسرائيلي.
الشرخ الداخلي في إسرائيل
المظاهرات تعكس أزمة أعمق داخل إسرائيل، إذ لم تعد الخلافات مقتصرة على الانقسام حول الحرب على غزة أو الموقف من نتنياهو، بل امتدت لتشمل شرعية استمرار الحرب نفسها مقابل أولويات داخلية ملحة مثل إعادة الرهائن. وبذلك، يجد نتنياهو نفسه أمام معضلة متزايدة: الاستمرار في الحرب يفاقم الغضب الشعبي ويضعف موقفه السياسي، بينما التوجه إلى صفقة تبادل أو وقف إطلاق نار قد يُفسر كتنازل استراتيجي أمام حماس.
انعكاسات على المفاوضات والضغوط الدولية
في ظل هذه الأجواء، تتزامن الاحتجاجات مع استمرار المفاوضات غير المباشرة حول وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى، والتي ترعاها أطراف إقليمية ودولية. المظاهرات تمنح الوسطاء ورقة ضغط إضافية على الحكومة الإسرائيلية، وتظهر أن الشارع نفسه يطالب بالتسوية، لا فقط الأطراف الخارجية. كما أن المشهد يعزز الأصوات الدولية التي تضغط لوقف الحرب في غزة، خاصة مع تزايد الانتقادات لسياسة نتنياهو في إدارة الملف الإنساني.
تكشف احتجاجات 26 أغسطس/آب أن إسرائيل باتت عالقة بين ثلاث ضغوط متناقضة:
ضغط داخلي شعبي وإنساني يتصاعد مع كل يوم يمر دون صفقة للرهائن.
ضغط عسكري وسياسي نتيجة استمرار الحرب وتوسعها نحو لبنان واليمن.
ضغط دولي متزايد يطالب بوقف الانتهاكات وحماية المدنيين في غزة.
هذه التوازنات تجعل من أزمة الرهائن نقطة ارتكاز جديدة في مسار الحرب، وقد تكون الشرارة التي تدفع الحكومة إما لتسوية مؤلمة أو لمزيد من التعنت الذي قد يفاقم الانقسام الداخلي.
بدأ ملف الرهائن في إسرائيل منذ صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين نفذت حركة حماس هجومها المفاجئ على المستوطنات والبلدات المحيطة بقطاع غزة، وتمكنت خلاله من أسر مئات الجنود والمستوطنين. هذا الحدث شكّل صدمة استراتيجية للمؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وأدخل الحكومة في مأزق أمني – سياسي لم تعرف مثيلاً له منذ عقود.
في الأسابيع الأولى للحرب، حاولت إسرائيل حسم الميدان عسكرياً عبر حملة واسعة في غزة، لكن استمرار احتجاز الرهائن حدّ من قدرتها على المناورة، إذ وُجهت لها اتهامات داخلية بأن العمليات العسكرية تهدد حياة الأسرى. ومع تصاعد الضغوط، أُبرمت أول صفقة تبادل مؤقتة بوساطة مصرية وقطرية في نوفمبر 2023، أفرجت خلالها حماس عن عشرات النساء والأطفال مقابل إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين، إلا أن مئات آخرين ظلوا في قبضة الفصائل.
منذ ذلك الحين، تحول الملف إلى محور أساسي في المفاوضات الدولية، حيث دخلت الولايات المتحدة وقطر ومصر على خط الوساطة بشكل متكرر. ورغم جولات عديدة من المحادثات، تعثرت أي تسوية شاملة بسبب تباين شروط الطرفين:
إسرائيل تصر على استعادة جميع الرهائن دون وقف طويل للحرب أو انسحاب كامل من غزة.
حماس تطالب بوقف شامل لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وصفقة تبادل واسعة تشمل الإفراج عن مئات من قياداتها المعتقلين.
هذا التعثر جعل عائلات الرهائن تتحول إلى قوة ضغط داخلية متنامية، حيث أسست منتديات وحركات احتجاجية، وشاركت في اعتصامات ومسيرات متواصلة أمام مقر الحكومة في القدس وفي شوارع تل أبيب. ومع مرور الوقت، باتت هذه العائلات تمثل رمزاً للانقسام الإسرائيلي: بين من يرى أولوية استعادة الأسرى بأي ثمن، وبين من يتمسك باستمرار الحرب لتحقيق أهداف عسكرية أوسع.
اليوم، ومع دخول الحرب عامها الثاني واتساعها نحو لبنان واليمن، يتزايد الشعور داخل إسرائيل بأن الحكومة فقدت السيطرة على الملف. وهذا ما يفسر قوة مشهد احتجاجات 26 أغسطس/آب 2025، التي لم تعد مجرد مسيرات مطلبية، بل تحولت إلى تحدٍ سياسي مباشر يضع مصير حكومة نتنياهو على المحك.