تتسارع الأحداث في إسرائيل مع اقتراب الأعياد اليهودية، إذ تفجّرت أزمة جديدة بين الأحزاب الحريدية من جهة، والمؤسسة العسكرية والمحكمة العليا من جهة أخرى، على خلفية قضية المتهربين من الخدمة العسكرية. فقد كشفت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن مساعٍ حثيثة من نواب حريديم للضغط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو من أجل السماح لهؤلاء الشبان بالسفر إلى الخارج خلال فترة الأعياد، وهو مطلب يتعارض مع التوجه الأمني والقانوني المتشدد للجيش الذي أعلن نيته تنفيذ حملة اعتقالات في مطار بن غوريون ضد كل من صدرت بحقه أوامر توقيف. هذه المواجهة لا تقف عند حدود الخلاف الديني–العسكري، بل تهدد بتعميق الانقسام السياسي داخل إسرائيل وتضع حكومة نتنياهو أمام معضلة قد تهز استقرارها الداخلي.
ضغوط حريدية متصاعدة
بحسب التقرير العبري، يقود كل من أرييه ديري، زعيم حزب "شاس"، والنائب يتسحاق جولدنكوب، حملة ضغط على رئيس الوزراء.
ديري يطالب بالسماح للشبان الحريديم بالسفر إلى مدينة أومان الأوكرانية لإحياء "روش هشناه"، وهو طقس ديني اعتاد آلاف اليهود من أتباع حركة بريسلاف المشاركة فيه.
في المقابل، يركز جولدنكوب على وجهة نيويورك، معتبرًا أن هذه الرحلات تمثل بعدًا روحيًا لا ينبغي أن يُحرم منه المتدينون بسبب الخلاف حول التجنيد.
موقف الجيش الإسرائيلي
تأتي هذه المطالب في وقت أعلن فيه الجيش عن خطة واسعة النطاق تشمل مراقبة المغادرين عبر مطار بن غوريون، واعتقال كل من يثبت تهربه من الخدمة.
من تجاوز فترة تهربه 540 يومًا قد يواجه عقوبة السجن مباشرة.
أما من لم يتجاوز هذا الحد فسيتم تحويله إلى مراكز الخدمة العسكرية (بكوم).
هذا التوجه الأمني يهدف إلى إرسال رسالة واضحة بأن المؤسسة العسكرية لم تعد تقبل باستمرار ما تصفه بـ"التمييز غير العادل"، خصوصًا في ظل الظروف الأمنية المتوترة بعد عام كامل من الحرب في غزة، وتصاعد التوتر مع حزب الله على الحدود الشمالية.
المعارضة تدخل على الخط
الأزمة لم تبقَ حبيسة الصراع بين الحريديم والجيش؛ فقد استغلت المعارضة، بقيادة يائير لابيد وبيني غانتس، الموقف لمهاجمة نتنياهو.
لابيد وصف الضغوط الحريدية بأنها "ابتزاز سياسي يهدد بتقويض سيادة القانون"، مشيرًا إلى أن استمرار الحكومة في الرضوخ لهذه المطالب سيؤدي إلى تعميق الشرخ بين شرائح المجتمع.
غانتس من جانبه شدد على أن "دماء الجنود ليست أقل قيمة من صلوات الحريديم"، داعيًا إلى فرض المساواة في الخدمة العسكرية دون استثناءات.
كما طالبت منظمات مدنية بضرورة التزام الحكومة بتنفيذ قرارات المحكمة العليا التي أبطلت مرارًا قوانين الإعفاءات الجماعية للحريديم، معتبرة أن أي تنازل جديد سيُفقد النظام القضائي هيبته ويكرّس التمييز.
حكومة نتنياهو في مأزق
الضغط المزدوج من الحريديم ومن المؤسسة العسكرية يضع نتنياهو أمام معادلة معقدة:
إذا استجاب لمطالب الحريديم، فإنه سيصطدم بالمؤسسة العسكرية والمحكمة العليا، ما قد يثير موجة احتجاجات جديدة في الشارع الإسرائيلي.
وإذا تجاهل ضغوط الحلفاء الدينيين، فإنه يخاطر بخسارتهم كركيزة أساسية في الائتلاف الحكومي، وربما يواجه تهديدًا حقيقيًا بانهيار الحكومة.
المراقبون يرون أن نتنياهو يسعى إلى شراء الوقت عبر صياغة "حل وسط" قد يسمح لعدد محدود من الشبان بالسفر وفق ضوابط معينة، لكن فرص نجاح مثل هذا الترتيب تبدو ضعيفة في ظل تصلب مواقف الجيش والمعارضة.
قضية تجنيد الحريديم تشكل إحدى أعقد الملفات في الحياة السياسية الإسرائيلية. فمنذ قيام الدولة عام 1948، حصل طلاب المعاهد الدينية على إعفاءات خاصة بقرار من ديفيد بن غوريون، وكان عددهم حينها لا يتجاوز بضع مئات. لكن مع نمو التيار الحريدي ديموغرافيًا، ارتفع عدد المستفيدين من الإعفاءات إلى عشرات الآلاف، ما أثار جدلاً واسعًا حول مبدأ "تقاسم الأعباء".
المحكمة العليا الإسرائيلية أبطلت أكثر من مرة قوانين تمنح الحريديم استثناءً جماعيًا، معتبرة أنها غير دستورية وتميّز ضد بقية فئات المجتمع. ورغم محاولات الحكومات المتعاقبة تمرير حلول وسط، فإن الأحزاب الحريدية التي تشكل عنصرًا حاسمًا في الائتلافات الحكومية تواصل عرقلة أي إصلاح شامل.
اليوم، وفي ظل التوتر الأمني والسياسي غير المسبوق، تتحول قضية السماح للمتهربين بالسفر في الأعياد إلى رمز أوسع لصراع الهوية داخل إسرائيل: بين دولة تسعى لتكريس "جيش الشعب" على أساس المساواة، وجماعة دينية تصر على حماية امتيازاتها التقليدية مهما كانت التبعات.
من أبرز الاحتمالات المطروحة أن يسعى بنيامين نتنياهو إلى التوصل لتسوية مؤقتة مع الأحزاب الحريدية، تقوم على السماح لعدد محدود من الشبان بالسفر إلى الخارج خلال فترة الأعياد، مقابل التزامات لاحقة بالخدمة أو قيود على السفر. مثل هذا الترتيب قد يمنح الحكومة متنفسًا قصير الأمد، لكنه لن يحل جوهر الأزمة، وسيتعرض لانتقادات شديدة من المعارضة التي ستعتبره "تنازلاً جديدًا" أمام الضغوط الدينية.
في المقابل، يظل احتمال التصعيد قائمًا إذا أصر الجيش الإسرائيلي على تنفيذ خططه بحذافيرها، والمضي في اعتقالات واسعة داخل مطار بن غوريون دون أي استثناءات. في حال تحقق ذلك، فإن مشاهد المواجهة المباشرة بين قوات الأمن وأبناء التيار الحريدي قد تشعل احتجاجات جماهيرية في أحياء القدس وبني براك، ما يضاعف من تعقيد المشهد السياسي والأمني في آن واحد.
كما يلوح في الأفق سيناريو آخر يتمثل في أزمة سياسية تهدد استقرار الائتلاف الحكومي نفسه. فالأحزاب الحريدية، التي تمثل ركيزة أساسية لحكومة نتنياهو، قد تلجأ إلى ورقة الانسحاب أو تعطيل التشريعات في الكنيست للضغط على رئيس الوزراء. وفي حال مضت في هذا المسار، فإن الحكومة قد تجد نفسها على حافة التفكك، وهو ما تسعى المعارضة إلى استغلاله من أجل إسقاط نتنياهو أو فرض انتخابات مبكرة.
إلى جانب ذلك، قد تدفع هذه الأزمة المحكمة العليا أو قوى المعارضة لإعادة فتح ملف قانون التجنيد بشكل شامل. تمرير صيغة جديدة تفرض نسبًا إلزامية من الخدمة على الحريديم سيشكل مواجهة دستورية وسياسية كبرى، قد تؤدي إلى جولة جديدة من المظاهرات والانقسامات في الشارع الإسرائيلي، وتعيد الصراع حول "تقاسم الأعباء" إلى قلب الساحة السياسية.
أخيرًا، هناك خيار يبدو مفضلاً لدى نتنياهو في كثير من الأزمات السابقة، وهو تأجيل البت في القضية تحت ذريعة "الظروف الأمنية الراهنة". تجميد الملف حتى ما بعد الأعياد قد يوفر مخرجًا مؤقتًا، لكنه في الوقت ذاته يرحّل المشكلة إلى موعد لاحق، حيث ستعود أكثر تعقيدًا مع كل دورة تجنيد جديدة، وخاصة في ظل استمرار الحرب في غزة وتصاعد التوترات مع حزب الله شمالًا.