لم تعرف سوريا في تاريخها الحديث عبئًا ماليًا أثقل من الديون التي تراكمت عليها خلال سنوات الحرب. فمع الانهيار الاقتصادي وتراجع الإنتاج المحلي وتآكل البنى التحتية، أصبحت البلاد غارقة في التزامات مالية تفوق طاقتها. وفي مقدمة هذه الالتزامات، تبرز الديون الروسية كأداة ضغط سياسي واقتصادي، لا مجرد أرقام في دفاتر المحاسبة.
إرث طويل من الالتزامات
تعود جذور المديونية السورية لموسكو إلى عقود مضت، حيث مثّلت روسيا المورّد الرئيس للسلاح والداعم الاقتصادي الأبرز للنظام. في عام 2005، قامت موسكو بشطب ما يقارب ثلاثة أرباع الديون المتراكمة آنذاك والتي بلغت أكثر من 13 مليار دولار، مقابل امتيازات اقتصادية واستراتيجية، من بينها عقود في قطاع الطاقة والمواصلات. وبذلك تحوّل الدين من عبء مالي إلى ورقة تفاوض دائم تضمن لروسيا موطئ قدم راسخًا في سوريا.
المال والسياسة.. وجهان لعملة واحدة
لم يقتصر التعاون على القروض المعلنة، بل تعدّاه إلى تحويلات نقدية مباشرة. فقد أشارت تقارير دولية إلى أن دمشق أرسلت مئات ملايين الدولارات إلى موسكو خلال سنوات الحرب، بعضها نُقل جوًا نقدًا، ليودع في مصارف روسية خاضعة للعقوبات. ورغم غموض التفاصيل، إلا أن المؤكد أن هذه الأموال شكّلت جزءًا من شبكة معقدة لتمويل العمليات العسكرية والإبقاء على التحالف الاستراتيجي.
ديون أم أوراق ضغط؟
اليوم، لم تعد الديون الروسية مجرد التزام مالي بحت، بل غدت أداة لإعادة رسم موازين النفوذ داخل سوريا. فموسكو تستخدم هذا الملف كوسيلة لربط أي إعفاء أو إعادة جدولة بخطوات موازية تعزز مصالحها، سواء عبر تثبيت وجودها العسكري أو تأمين عقود طويلة الأمد في مجالات الطاقة والفوسفات والمرافئ. وبذلك، تتحول المطالبات المالية إلى مفاتيح للسيطرة على موارد البلاد ومستقبلها.
القواعد العسكرية.. ضمانة فوق الحسابات
بعيدًا عن لغة الأرقام، تعتمد روسيا على ركيزتين استراتيجيتين في سوريا: قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس البحرية. هاتان القاعدتان وُقّعت لهما اتفاقيات طويلة الأمد تمنحهما حصانة واستمرارية تتجاوز أي نقاش مالي. بالنسبة لموسكو، تمثل هذه المواقع ضمانة استراتيجية تفوق في أهميتها قيمة المليارات المستحقة، ولذلك يصعب فصل أي تفاوض حول الديون عن مستقبل هذه القواعد.
بين القانون والسياسة
في القانون الدولي، هناك ما يُعرف بـ"الديون البغيضة"، وهي الالتزامات التي تعقدها أنظمة استبدادية لقمع شعوبها، وتُعتبر غير شرعية ولا تلزم الحكومات الجديدة. وقد طُبّقت هذه النظرية في حالات سابقة مثل العراق بعد 2003. لكن المشكلة أن هذه القاعدة ليست ملزمة دوليًا، وتطبيقها يحتاج إلى تفاهم سياسي مع الدائن. ما يعني أن أي محاولة سورية للتخلص من هذه الديون عبر هذا الباب، ستصطدم بالفيتو الروسي وبحاجة البلاد إلى دعم دولي أوسع.
عقود استراتيجية متشابكة
جزء من صعوبة الملف يعود إلى ارتباط الديون بعقود استراتيجية معقدة، مثل اتفاقات استثمار الفوسفات أو امتيازات تشغيل المرافئ. هذه العقود تجعل من المستحيل تقريبًا فصل الالتزامات المالية عن النفوذ السياسي والاقتصادي. حتى لو جرى شطب جزء من الديون، تبقى العقود سارية ما لم تُلغ أو يُعاد التفاوض بشأنها، وهو أمر يتطلب جهدًا قانونيًا وسياسيًا شاقًا.
الخيارات المتاحة أمام دمشق
رغم التعقيدات، هناك عدة سيناريوهات محتملة:
- إعفاء جزئي مقابل تنازلات سياسية أو اقتصادية، مثل توسيع نطاق الامتيازات الروسية.
- تجميد مؤقت للسداد ريثما يتم التوصل إلى تسوية شاملة للملف الاقتصادي والسياسي.
- استخدام الملف كورقة ضغط متبادل، حيث تلوّح دمشق بإعادة النظر في بعض العقود مقابل مرونة روسية في مسألة الديون.
لكن يبقى الاحتمال الأقوى هو استمرار موسكو في استغلال الملف لإبقاء دمشق تحت دائرة النفوذ، لا سيما في ظل تقاطع مصالحها مع قوى أخرى مثل إيران وتركيا.
البعد الدولي وتعقيدات الحل
على الصعيد الدولي، تبدو فرص سوريا في الحصول على دعم مؤسسات مالية كبرى مرتبطة بتسوية سياسية أوسع. وحتى في حال انفتاح البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي، فإن التمويل المشروط لن يُسمح باستخدامه لتسوية مطالبات روسيا، كي لا يتحول الدعم الدولي إلى أداة لتعزيز النفوذ الروسي.
أما الطرح المتداول حول استخدام أموال عائلة الأسد المودعة في روسيا لتسديد جزء من الديون، فيبقى أقرب إلى التكهنات، لغياب الشفافية وصعوبة إثبات وجود أصول قابلة للمصادرة.
ملف الديون الروسية على سوريا ليس مجرد فاتورة مالية تنتظر التسديد، بل هو عقدة استراتيجية تشابكت فيها الحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية. فكل رقم على الورق يرتبط بامتياز أو قاعدة أو عقد طويل الأمد. وفي ظل هذا التشابك، لا يبدو أن التخلص من هذه الأعباء سيكون ممكنًا دون تفاهمات دولية كبرى، توازن بين حماية السيادة السورية من جهة، وضمان مصالح القوى الفاعلة من جهة أخرى.