أحدثت تصريحات الحاخام موشيه مايا، عضو مجلس حكماء التوراة لحزب شاس، حول إمكانية تجنيد اليهود المتدينين الحريديم الذين لا يدرسون بدوام كامل، موجة جديدة من النقاش داخل إسرائيل. الإعلان جاء في سياق أزمة مستمرة بين الدولة والمجتمع الحريدي، إذ يعاني الجيش الإسرائيلي من نقص متزايد في المتطوعين، ويبحث عن طرق لدمج شرائح جديدة من المواطنين دون المساس بتقاليدهم الدينية.
التصريح الجديد يمثل انعطافًا نادرًا في الموقف الحريدي التقليدي، الذي طالما رفض الانخراط العسكري، معتبرًا أن الدراسة الدينية في اليسيفا أولوية لا يمكن التنازل عنها. هذا التقرير يستعرض خلفيات الأزمة، الموقف الحريدي، الضغوط الحكومية، التحديات العسكرية، وتحليل مستقبل التجنيد الحريدي في إسرائيل.
تعود جذور الأزمة إلى عقود، حيث كان الطلاب الحريديم في اليسيفا يتمتعون باستثناءات من الخدمة العسكرية، مستندين إلى التقاليد الدينية التي تمنح الدراسة الدينية مكانة متميزة. هذا النظام، الذي بدأ في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان يهدف إلى خلق توازن بين الدولة المدنية والهوية اليهودية الدينية.
مع مرور الوقت، ازدادت الانتقادات على هذا الاستثناء، خصوصًا من أطراف مدنية وسياسية ترى أن الخدمة العسكرية يجب أن تكون إلزامية لجميع المواطنين، بما في ذلك الحريديم. شهدت الفترة من 2010 إلى 2024 تصاعدًا مستمرًا في الجدل، إذ أصدرت المحكمة العليا عدة أحكام حاسمة، أبرزها حكم يونيو 2024 الذي أنهى الاستثناءات الخاصة بالطلاب الحريديم، وأثار صدامًا قانونيًا وسياسيًا مع القيادات الدينية.
يتمسك المجتمع الحريدي بمبدأ "دراسة التوراة فوق كل اعتبار"، ويرى في الخدمة العسكرية تهديدًا للقيم الدينية، وخاصة فيما يتعلق بالحفاظ على قدسية يوم السبت والالتزام بتقاليد اللباس والطعام.
القيادات البارزة مثل الحاخام موشيه غافني حذرت سابقًا من أن فرض التجنيد على طلاب اليسيفا سيؤدي إلى "صراع مع العالم التوراتي"، مشيرة إلى أن أي تراجع عن هذا المبدأ سيؤثر على استمرارية النسيج الديني والاجتماعي للحريديم.
ومع ذلك، أبدى الحاخام موشيه مايا مرونة محدودة، مشيرًا إلى أن الانضمام للجيش ممكن إذا تم وضع ترتيبات رسمية تضمن احترام نمط الحياة الدينية، مثل الحفاظ على أوقات الصلاة، والنظام الغذائي الحلال، والامتناع عن الأعمال التي تتعارض مع يوم السبت.
الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها وزارة الدفاع، تواجه تحديات كبيرة في ضمان استمرارية الجاهزية العسكرية. نقص المتطوعين في صفوف الجيش الحريديم يمثل ضغطًا مزدوجًا: أمنيًا ومجتمعيًا.
الحكومة حاولت تقديم حلول وسطية، مثل برامج "حريديم في الجيش" التي تهدف إلى دمج عدد محدود من الشباب المتدينين ضمن وحدات خاصة تراعي تقاليدهم. هذه البرامج لم تحظَ بإجماع داخلي، لكنها تُعتبر بداية لسياسات أكثر مرونة.
الجدل لا يقتصر على الحكومة وحدها، بل يشمل أيضًا الأحزاب السياسية المختلفة، حيث يرى بعض أعضاء الكنيست أن الاستثناءات المتواصلة تهدد المساواة المدنية بين المواطنين، بينما يعتبر آخرون أن الضغط على الحريديم قد يثير صدامات اجتماعية وسياسية حادة.
من منظور الجيش الإسرائيلي، دمج الشباب الحريديم يعني توسيع قاعدة المجندين وضمان جاهزية أكبر في مواجهة التحديات الأمنية، خصوصًا في ظل العمليات المستمرة في غزة والضفة الغربية.
الجيش يواجه مشكلة نقص الأفراد المؤهلين، وتحديًا في دمج شرائح محافظة تحافظ على أنماط حياة صارمة، مما يستدعي خلق وحدات خاصة، وتعديل البروتوكولات لضمان التوافق مع القيم الدينية.
رغم تصريحات الحاخام مايا، تبقى المقاومة قوية داخل المجتمع الحريدي. كثير من العائلات ترى في الخدمة العسكرية تهديدًا للهوية الدينية والاجتماعية لأبنائها.
الجدل بين الحاخامات الحريديم يوضح الانقسامات الداخلية، بين من يرى إمكانية التكيف مع الجيش بشروط محددة، وبين من يرفض أي انخراط، معتبرًا أن التقاليد الدينية ليست قابلة للمساومة.
التحولات في الموقف الحريدي قد تكون تدريجية، وتحتاج إلى خطوات ملموسة تشمل:
1. ضمانات قانونية ودينية واضحة لدمج الحريديم في الجيش.
2. برامج تدريب خاصة تراعي نمط حياتهم الديني.
3. حوار مستمر بين القيادات الدينية والحكومة والجيش لضمان توافق القرارات مع القيم الدينية والاجتماعية.
أي خطوة خاطئة قد تؤدي إلى أزمة جديدة بين الدولة والمجتمع الديني، وهو ما يجعل الفترة المقبلة حساسة للغاية.
تصريحات الحاخام موشيه مايا تعكس محاولة لتقريب وجهات النظر بين الدولة والمجتمع الحريدي، لكنها لا تمثل تغييرًا شاملًا على أرض الواقع بعد. التطبيق العملي يعتمد على توافق قانوني وديني، وسط ضغوط سياسية وأمنية متزايدة.
الأزمة تظل نموذجًا حيًا للصراع المستمر بين التقاليد الدينية ومتطلبات الدولة الحديثة، وهي مؤشر واضح على صعوبة الموازنة بين الحفاظ على الهوية الدينية والحاجة إلى دمج المواطنين في مؤسسات الدولة الأمنية.
العديد من الأحزاب الإسرائيلية لعبت أدوارًا متباينة في أزمة التجنيد الحريدي، بحسب توجهاتها السياسية والدينية. حزب شاس، الذي يمثل مصالح الحريديم السفارديم، ظل يدافع عن استمرار الاستثناءات، مع التركيز على حماية القيم الدينية التقليدية ومنع أي فرض للتجنيد على الطلاب. بالمقابل، حزب يهدوت هتوراة، ممثل الحريديم الأشكناز، اتخذ موقفًا مشابهًا لكنه أكثر تشددًا في رفض أي مرونة، معتبرًا أن السماح للجيش بدمج الحريديم يعد تهديدًا مباشرًا للهوية الدينية.
أحزاب مركزية مثل حزب الليكود، بينما تدعم الحفاظ على تماسك الدولة ومؤسساتها الأمنية، حاولت التوصل إلى حلول وسطية، مثل برامج "الحريديم في الجيش"، التي تسمح بانضمام عدد محدود من الشباب مع مراعاة قواعد حياتهم الدينية. أحزاب يسارية ومدنية، على الطرف الآخر، ركزت على المساواة المدنية، معتبرة أن الاستثناءات المستمرة تمثل انحيازًا على حساب الشباب الإسرائيليين الآخرين وتؤثر على فعالية الجيش.
المحكمة العليا الإسرائيلية لعبت دورًا محوريًا في هذه الأزمة منذ سنوات. في بداية الألفية الثانية، أصدرت أحكامًا تحدد الاستثناءات للطلاب الدينيين، معتبرة أنها ضرورية للحفاظ على النسيج الديني في إسرائيل. مع مرور الوقت، ومع ارتفاع نسبة الشباب الحريديم الذين يتهربون من الخدمة العسكرية، بدأت المحكمة في فرض قيود أكثر صرامة.
في يونيو 2024، صدر حكم قضائي تاريخي أنهى الاستثناءات الخاصة بالطلاب الحريديم، مؤكدًا أن الخدمة العسكرية إلزامية للجميع، ما عدا حالات محددة بموجب القانون. هذا الحكم أوجد توترًا مباشرًا بين الحكومة والقيادات الدينية، وفتح المجال أمام محاولات التفاوض لإيجاد حلول وسطية، مثل دمج الحريديم في وحدات خاصة تراعي تقاليدهم الدينية.
قيادات الحريديم أبدت مواقف متباينة. الحاخام موشيه مايا، عضو مجلس حكماء التوراة، أعلن إمكانية انضمام الشباب الذين لا يدرسون بدوام كامل للجيش بشرط الحفاظ على نمط حياتهم الديني. هذا الإعلان اعتُبر انعطافًا نادرًا في الموقف التقليدي، لكنه جاء مشروطًا بعدة ترتيبات عملية لضمان احترام التقاليد.
على النقيض، الحاخام موشيه غافني عبر عن رفضه القاطع لأي فرض للتجنيد، معتبرًا أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستكون "هجومًا على العالم التوراتي". تصريحات قيادات أخرى أكدت أن المجتمع الحريدي ليس مستعدًا بعد للتنازل عن الأولوية المطلقة للدراسة الدينية، وأن أي برنامج دمج يجب أن يكون محدودًا جدًا ويخضع لموافقة دينية صارمة.