تشهد الساحة السورية منذ أسابيع تصاعدًا في التنافس الإقليمي والدولي، يعكس تداخل المصالح بين ثلاث قوى رئيسية: إسرائيل جنوبًا، تركيا شمالًا، وفرنسا في الشرق عبر دعمها لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). وبينما تحاول واشنطن إدارة هذه التناقضات بما يضمن استقرارًا نسبيًا، تبدو دمشق في موقع المناورة، تسعى لتفادي الاستنزاف والاستفادة من التوازنات القائمة.
إسرائيل جنوبًا.. الأمن أولًا
تتعامل إسرائيل مع الجنوب السوري باعتباره خطًا أحمر يتجاوز مسألة الجولان. تدعي أن هدفها الرئيس هو منع تمدد إيران وحلفائها، وضبط المعادلات الأمنية على حدودها الشمالية. لذلك، فإن أي تفاوض مع دمشق أو وساطة دولية لا ينفصل عن رؤية إسرائيلية تعتبر أن "المنطقة العازلة" ضرورة استراتيجية لا مجرد اتفاقية مرحلية.
ومع ذلك، تدرك تل أبيب أن الدخول في مواجهة مباشرة مع تركيا أو معادلة إقليمية أعقد قد يعرّضها لخيارات غير محسوبة، لذلك تحاول تثبيت حضورها جنوبًا مع الإبقاء على قنوات التفاهم مفتوحة مع الأطراف الأخرى.
تركيا شمالًا.. هاجس الكرد
في المقابل، ترى أنقرة أن لحظتها التاريخية لتأمين حدودها مع سوريا قد حانت، بشروطها الخاصة، خصوصًا تجاه الملف الكردي. فـ"قسد" من وجهة نظرها ليست سوى امتداد لحزب العمال الكردستاني الذي يهدد الأمن القومي التركي.
تركيا، باعتبارها قوة إقليمية وعضوًا في "الناتو"، تتحرك بفعالية عالية، مستخدمة أدواتها العسكرية والسياسية لفرض إيقاعها في الشمال السوري. لكنها، في الوقت نفسه، تحاول إبقاء خيوط التفاهم مع دمشق قائمة، لقطع الطريق على أي دعم خارجي قد يمنح الكرد هامش مناورة إضافيًا.
باريس وورقة "قسد"
تسعى فرنسا للعودة إلى الشرق الأوسط عبر بوابة "قسد". فهي ترى في دعمها للأكراد استثمارًا سياسيًا يمكّنها من التأثير على مستقبل سوريا، وورقة ضغط على دمشق. غير أن هذا الموقف يثير غضب أنقرة التي تخشى أن تؤدي رعاية باريس لمفاوضات مع "قسد" إلى تكريس شكل من أشكال الحكم الذاتي في شمال شرقي سوريا، ما تعتبره تهديدًا وجوديًا.
الصراع التركي- الفرنسي في هذا السياق ليس فقط حول "قسد"، بل أيضًا حول النفوذ الأوسع في المتوسط والشرق الأوسط، حيث تتنافس العاصمتان على أدوار تفوق المساحة السورية الضيقة.
واشنطن.. إدارة التناقضات
وسط هذا التشابك، تبقى واشنطن اللاعب الأكثر تأثيرًا. فهي تدير التفاهمات بين أنقرة وتل أبيب وباريس، وتضغط على دمشق للابتعاد عن إيران، وتمنحها في الوقت نفسه هامشًا لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية.
الولايات المتحدة لا تسعى لحل جذري، بل لإدارة صراع طويل الأمد يمنع الانفجار الكبير ويضمن بقاء سوريا في حالة "توازن هش" يقطع الطريق على عودة نفوذ خصومها الإقليميين.
دمشق.. سياسة البقاء
أمام هذا المشهد، تحاول دمشق التحرك ببراغماتية، مستفيدة من تضارب مصالح القوى الخارجية. فهي تدرك أن التوازن بين تركيا وإسرائيل وفرنسا قد يتيح لها استعادة بعض الهوامش السياسية، لكن ضعف خبرتها الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية والأمنية الداخلية تجعلها أكثر ميلًا إلى رد الفعل من المبادرة.
مع ذلك، فإن إدارتها لهذا الملف ستحدد شكل عودتها إلى الإقليم: إما كدولة قادرة على الموازنة بين القوى، أو كساحة نفوذ تتقاسمها الأطراف المتصارعة.
معركة النفوذ لا معركة الخرائط
ما يجري اليوم في سوريا ليس مجرد صراع على الأرض، بل هو سباق على النفوذ وإعادة التموضع الإقليمي. إسرائيل تناور لحماية حدودها، تركيا تتحرك لإغلاق ملف الكرد بشروطها، وفرنسا تسعى للعودة إلى شرق المتوسط عبر "قسد". أما واشنطن، فهي تمسك بالخيوط، وتدير اللعبة دون التزام بحسمها.
في النهاية، يبقى السؤال: هل يتحول هذا التنافس إلى تفاهمات مرحلية تمنح سوريا فرصة لالتقاط أنفاسها، أم أن تضارب المصالح سيدفع نحو تصعيد جديد يجعل البلاد ساحة مواجهة مفتوحة؟
الإجابة ليست قريبة. لكن المؤكد أن سوريا، كما كانت دائمًا، لا تزال الميدان الأهم لاختبار توازنات الشرق الأوسط، حيث لا غالب ولا مغلوب، بل تنافس مستمر على النفوذ، ومناورة لا تنتهي بين القوى الكبرى والإقليمية.