تفاهمات الجنوب السوري.. مناورة تكتيكية أم تحول استراتيجي؟

سامر الخطيب

2025.08.25 - 10:36
Facebook Share
طباعة

 تثير اللقاءات الأخيرة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، بوساطة أمريكية في باريس، سلسلة من الأسئلة حول مستقبل الجنوب السوري، وحول ما إذا كانت هذه الاجتماعات تمثل مجرد ترتيبات أمنية مرحلية لخفض التصعيد، أم أنها تؤسس لمسار أوسع من إعادة التموضع الإقليمي يغيّر قواعد اللعبة في المنطقة.


حدود التفاوض: من فض الاشتباك إلى مقايضات جديدة
رغم الإشارة إلى اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 بوصفه إطاراً يمكن العودة إليه، إلا أن المشهد الميداني تغيّر جذرياً. إسرائيل لم تعد تتعامل مع الجنوب السوري باعتباره مجرد "جبهة محتملة"، بل كمنطقة عازلة تتيح لها ضبط النفوذ الإيراني، والتحكم بالمعادلات الأمنية الممتدة من الجولان حتى السويداء.

من جهة أخرى، ترى دمشق في هذه التفاهمات فرصة لشراء الوقت وتسكين الجبهات الأكثر سخونة، في محاولة لتفكيك الملفات المعقدة واحداً تلو الآخر، وتجنب الانجرار إلى صدام مفتوح مع قوة إقليمية مثل إسرائيل، في وقت تحتاج فيه إلى تعزيز موقعها السياسي وإعادة بناء مؤسساتها الداخلية.


الدور الأمريكي: إدارة تناقضات لا حل نزاعات
الوزن الفعلي في هذه اللقاءات يبقى للولايات المتحدة، التي تحاول رسم مسار يضمن الحد الأدنى من الاستقرار في سوريا، دون الدخول في تسوية شاملة لا تمتلك أدوات فرضها. واشنطن تتحرك بخطوات متوازية: رعاية اللقاءات السياسية، التواصل مع القيادات الدرزية في إسرائيل، وطرح مبادرات إنسانية في الجنوب السوري.


لكن الأهم أن واشنطن تستخدم ورقة التفاهمات الأمنية للضغط على دمشق كي تنأى بنفسها عن طهران و"حزب الله"، مع إبقاء احتمالية الانفتاح الاقتصادي الأمريكي والأوروبي مفتوحة، شرط تحييد النفوذ الإيراني وتجنب شراكات استراتيجية مع أنقرة أو موسكو.


إسرائيل الكبرى.. من خطاب نتنياهو إلى وقائع الجولان
تزامن التفاوض في باريس مع محاولة مستوطنين إسرائيليين وضع حجر الأساس لبؤرة استيطانية جديدة في الجولان. ورغم أن الجيش الإسرائيلي أحبط المبادرة، إلا أن رمزية الحدث لا يمكن فصلها عن خطاب رئيس الوزراء نتنياهو حول "إسرائيل الكبرى"، وعن حضور تيار سياسي وفكري يدفع باتجاه تكريس سياسة توسعية طويلة الأمد.


هذه الخطوات "غير الرسمية" تكشف معضلة التفاوض: فبينما تبحث دمشق وواشنطن عن صيغة لتجميد الجبهة الجنوبية، هناك تيارات إسرائيلية ترى أن الوقت مناسب لترسيخ وقائع جديدة على الأرض، انطلاقاً من أجواء ما بعد السابع من أكتوبر والتغيرات في موازين القوى الإقليمية.


السويداء.. ملف أمني أم ورقة سياسية؟
التركيز الإعلامي على السويداء يوحي بأنها محور اللقاءات، لكن واقع الحال يشير إلى أنها مجرد بوابة لملف الجنوب السوري بأكمله. بالنسبة لدمشق، تهدئة السويداء وسحب ذرائع التدخل الخارجي أمر حيوي لمنع استنزاف جديد. وبالنسبة لإسرائيل، لا أهمية للمحافظة بحد ذاتها، إلا بما تخدمه من إعادة صياغة معادلات الأمن على حدودها الشمالية، وضبط التفاعلات التي قد تفتح ثغرات لنفوذ إيران. بمعنى آخر، السويداء قد تكون عنواناً إنسانياً أو سياسياً، لكنها في العمق ورقة في معادلة إقليمية أوسع.


هل نحن أمام مسار تفاوضي طويل؟

القراءة الأولية لهذه الاجتماعات تشير إلى أنها لا تتجاوز حدود خفض التصعيد وترتيب "قواعد اشتباك" جديدة في الجنوب. لكن على المدى الطويل، فإن تراكم اللقاءات وتكرارها، وتجاوزها للأطر الشكلية، يفتح الباب أمام تحولها إلى مسار سياسي- أمني أوسع.
مع ذلك، ثمة عقبات جدية:
- الهوس التوسعي الإسرائيلي الذي يجعل أي تفاهم عرضة للانهيار أمام مبادرات استيطانية أو تصعيد ميداني غير منضبط.
- الهواجس السورية الداخلية المرتبطة بالحاجة إلى تعزيز الشرعية داخلياً وإقليمياً، بما يجعل أي تنازل في ملف حساس كالعلاقة مع إسرائيل موضوعاً شائكاً.
- الوساطة الأمريكية التي قد تتبدل أولوياتها تبعاً للتغيرات في واشنطن أو الحسابات الانتخابية، دون التزام طويل الأمد بمسار تسوية معقد كهذا.


مناورة لا صفقة
من المبكر الحديث عن اتفاق شامل بين سوريا وإسرائيل. ما يجري الآن أقرب إلى "مناورة تكتيكية" تحاول الأطراف من خلالها شراء الوقت، وامتصاص التوترات، واستكشاف فرص بناء الثقة.


لكن هذا لا يلغي أن تراكم هذه المناورات قد يفتح الباب أمام مسار مختلف إذا تلاقت المصالح، خصوصاً إذا نجحت واشنطن في موازنة علاقتها مع تل أبيب مع إشراك دمشق في ترتيبات إقليمية جديدة.


أما في الأفق المنظور، فالمرجح أن يستمر الصراع بصيغته المرنة: تفاهمات أمنية مؤقتة، ترافقها خروقات ميدانية، في مشهد يعكس حقيقة الشرق الأوسط منذ عقود، حيث الاستقرار الدائم يبقى مؤجلاً، بينما الترتيبات المؤقتة تُدار ببراغماتية، إلى أن تنضج ظروف أكبر لمعادلة جديدة.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 10 + 5