المسرح الإقليمي.. جولة إعادة التموضع تحت سقف "الحماقة الاستراتيجية"

أمانى إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.08.25 - 08:22
Facebook Share
طباعة

لا تبدو المنطقة في حالة هدوء عابر أو مجرد اضطراب مرحلي؛ بل تسير بخطى متسارعة نحو مرحلة إعادة تموضع كبرى، حيث كل لاعب إقليمي أو دولي يعيد حساباته على ضوء التطورات التي انفجرت منذ حرب غزة، مرورًا بالمواجهة الإيرانية – الإسرائيلية، وصولًا إلى ضربات اليمن والرسائل الأميركية في العراق. هذه التفاعلات لا تجري في عزلة، بل تشكّل لوحة مكتملة الأركان تعكس ما يمكن وصفه بـ"التهيؤ الاستراتيجي لجولة جديدة"، جولة تزداد خطورتها مع تزايد منسوب الاندفاع غير المحسوب، أو ما يمكن تسميته بـ"الحماقة الاستراتيجية".

 

التحول الأميركي: الانسحاب من العراق والتمركز في كردستان

قرار الولايات المتحدة سحب قواتها من قواعد رئيسية في العراق ونقلها إلى إقليم كردستان لم يكن وليد لحظة تكتيكية. بل يعكس مسارًا بدأ منذ سنوات مع تصاعد الاستهداف المتكرر للقواعد الأميركية في غرب العراق ووسطه من قِبل الفصائل المسلحة المقرّبة من إيران.


التحرك نحو كردستان، حيث البيئة السياسية والأمنية أكثر صداقة لواشنطن، يمنح القوات الأميركية هامش أمان أكبر، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن مأزق استراتيجي. فوجود واشنطن في العراق لم يعد يحظى بالشرعية الشعبية ولا السياسية، وتحول إلى عبء يجرّ عليها مزيدًا من الاستهداف.
في المقابل، فإن التمركز الجديد يمنحها نقطة ارتكاز قريبة من إيران وسوريا وتركيا، ما يتيح قدرة أكبر على "التنشين" في أي مواجهة مقبلة، سواء كانت عمليات ردع ضد طهران أو ضبط إيقاع الفصائل العراقية. لكن هذا التموضع قد يُقرأ من جانب إيران وحلفائها كتصعيد جديد، ما يفتح الباب على موجة استهداف أشد كثافة.

 

الضربات الإسرائيلية على صنعاء: معركة الرسائل المفتوحة

الهجوم الإسرائيلي الأخير على صنعاء جاء بمثابة "ترجمة عملية" لفحوى الصواريخ الحوثية التي وصلت إلى العمق الإسرائيلي، وبدت متعددة الرؤوس والقدرات. استهداف إسرائيل لمواقع حيوية، وإحداثها خسائر كبيرة، يؤكد أنها لم تعد تتعامل مع الحوثيين كملف ثانوي أو هامشي، بل كذراع استراتيجي لإيران قادر على تعطيل الأمن الإسرائيلي في لحظة حساسة.
غير أن طبيعة الصراع تجعل من هذه المواجهة "حرب رسائل مفتوحة": فالحوثيون، بعد سنوات من الخبرة القتالية في اليمن والخليج، أثبتوا أنهم قادرون على الردّ بأساليب غير متوقعة. ومن غير المرجّح أن تكون ضرباتهم الصاروخية الأخيرة هي الأخيرة، بل بداية لمسار تصعيدي يراد منه إدخال إسرائيل في جبهة استنزاف جديدة.


إسرائيل من جانبها تراهن على أن "الضربات النوعية" ستردع الحوثيين أو تدفعهم للتراجع، لكن الوقائع تشير إلى أن معادلة الردع في هذه الساحة تحديدًا تتآكل بسرعة، ما يضيف بعدًا جديدًا إلى معركة إقليمية تتجاوز حدود غزة.

 

إيران.. لاعب مركزي في معادلة إعادة التموضع

لا يمكن قراءة مشهد إعادة التموضع في الإقليم بمعزل عن الدور الإيراني. فطهران أثبتت خلال العامين الأخيرين أنها قادرة على تحريك جبهات متعددة في وقت واحد: من دعمها المتصاعد لحماس والجهاد في غزة، مرورًا بحزب الله في لبنان، وصولًا إلى الفصائل العراقية والحوثيين في اليمن. هذه الأذرع ليست مجرد أوراق ضغط، بل أدوات استراتيجية لإعادة تعريف ميزان القوى مع إسرائيل وواشنطن.

 

المواجهة المباشرة في ربيع 2025 بين إيران وإسرائيل شكّلت نقطة تحول؛ إذ كسرت جدار "الحرب بالوكالة" ودفعت الطرفين إلى حافة صدام شامل. ورغم أن الجولة لم تتحول إلى حرب مفتوحة، فإنها كشفت هشاشة الردع المتبادل وأدخلت الإقليم في حالة استنفار دائم.

 

الأهم أن طهران باتت تتحرك بوصفها "قوة إعادة المواجهة"؛ فهي لا تكتفي بالردّ، بل تبادر إلى فتح جبهات جديدة، الأمر الذي يفرض على بقية اللاعبين – من واشنطن إلى القاهرة وعمّان – إعادة النظر في أولوياتهم وتحالفاتهم. بهذا المعنى، إيران ليست فقط طرفًا في الأزمة، بل محرك رئيسي لإعادة التموضع الإقليمي بأسره.

 


غزة.. ساحة الانسداد الاستراتيجي

في غزة، تعكس العمليات الإسرائيلية الوحشية ضد المدينة ومحيطها حالة انسداد استراتيجي أكثر من كونها إنجازًا ميدانيًا. فمنذ عشرة أشهر تقريبًا، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق هدف سياسي أو عسكري واضح، بل غرقت في حرب استنزاف تستنزف صورتها أمام الداخل والخارج.


إصرار إسرائيل على مواصلة الهجمات، رغم كلفتها البشرية والسياسية، يترجم أزمة القيادة الإسرائيلية التي تبحث عن "انتصار معنوي" بعد سلسلة إخفاقات. لكن هذا الإصرار يعمّق مأزقًا آخر: فكل تصعيد جديد يعيد توحيد الموقف الفلسطيني، ويضاعف عزلة إسرائيل أمام المجتمع الدولي، خاصة مع تصاعد خطاب المجاعة والإبادة.


غزة تحولت إلى مرآة تعكس فشل إسرائيل في الحسم، وهو ما يعزز شعور الأطراف الأخرى (من إيران إلى الحوثيين وحتى حزب الله) بأن تل أبيب أضعف من أن تفرض معادلة ردع طويلة المدى. هذا الشعور بالهشاشة يعيد رسم قواعد الاشتباك في المنطقة بأكملها.


لبنان وحزب الله.. جبهة الاشتباك والتحكم بالسلاح

يعتبر لبنان اليوم أحد أهم مسارح إعادة التموضع الإقليمي، حيث يشكّل حزب الله الذراع الأساسي لإيران في مواجهة إسرائيل، لكنه في الوقت نفسه نقطة توتر داخلية وإقليمية على حد سواء. الحزب يحتفظ بأسلحة متقدمة، بعضها مستورد مباشرة عبر إيران، وبعضها تم تهريبه أو تصنيعه محليًا، ما يضع لبنان تحت مجهر المجتمع الدولي.

 

الخلل الاستراتيجي يكمن في أن الدولة اللبنانية عاجزة عن فرض سيطرتها على سلاح الحزب، وهو ما يخلق فجوة أمنية تهدد الاستقرار الداخلي. هذا الأمر سبب انقسامات داخلية بين القوى السياسية اللبنانية نفسها: بعض الأطراف ترى في سلاح الحزب ضرورة للدفاع عن لبنان، فيما تعتبره جهات أخرى عاملًا يعرّض البلاد للمواجهات الإسرائيلية ويزيد من معاناتها الاقتصادية والسياسية.

 

على المستوى الدولي، الخلاف واضح بين اللاعبين: الولايات المتحدة ودول أوروبية ترفض تورط لبنان أو حزب الله في أي تهديد لإسرائيل، وتضغط على بيروت لتطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بمصادرة الأسلحة غير المرخصة، بينما إيران تمارس دعمًا عسكريًا مباشرًا لحزب الله، مع الحفاظ على استراتيجية تسمح له بالتحرك شبه مستقل على جبهته الجنوبية.

 

هذا التوازن الهش يجعل لبنان ساحة صراع مفتوحة: أي تحرك إسرائيلي ضد حزب الله قد يجرّ إيران إلى مواجهة أوسع، وفي الوقت نفسه، يمنع الأطراف اللبنانية من فرض سلطة الدولة بشكل كامل، ما يخلق حلقة مفرغة من التصعيد والتهديدات المتبادلة.

 

 

اليمن.. جبهة الجنوب والرسائل الصاروخية

اليمن يظل ساحة مفتوحة لتطبيق استراتيجية إيران في المنطقة، حيث يمثل الحوثيون الذراع الإقليمي الأبرز لطهران في مواجهة إسرائيل والخليج. الجماعة طورت قدراتها الصاروخية بشكل ملحوظ، لتصبح قادرة على إطلاق صواريخ متعددة الرؤوس صوب العمق الإسرائيلي، ما يفرض على تل أبيب إعادة تقييم حساباتها الأمنية والاستراتيجية.

 

الهجمات الحوثية الأخيرة لم تكن مجرد رد على الضربات الإسرائيلية، بل جزء من استراتيجية شاملة لإعادة فرض التوازن الإقليمي، حيث تسعى إيران لفتح جبهة جنوبية يمكن من خلالها خلق ضغط مستمر على إسرائيل، في سياق ما يُعرف بـ"الضغط متعدد الجبهات".

 

الخلاف الإقليمي حول اليمن متشعب: السعودية والإمارات تعتبر الحوثيين تهديدًا مباشرًا لأمنها، وتضغط لوقف تهريب الصواريخ، بينما إيران ترى في دعم الحوثيين وسيلة لتعويض حدودها الاستراتيجية مع إسرائيل. على المستوى الدولي، الأمم المتحدة تحاول التوسط لتخفيف التصعيد وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، لكن الخلافات الإقليمية تحد من فعالية أي اتفاق.

اليمن بهذا المعنى أصبح "منصة مواجهة" أكثر من كونه ساحة نزاع محلي، حيث تترابط عمليات الصواريخ، التدخل الإيراني، والرد الإسرائيلي في صورة متكاملة تشكل خطورة على استقرار المنطقة، وتضع بقية اللاعبين أمام تحديات جديدة لإعادة ترتيب أولوياتهم الأمنية.


القاهرة – عمّان: تنسيق عسكري لمواجهة عاصفة إقليمية

في خضم هذه التطورات، جاءت زيارة وفد عسكري أردني رفيع المستوى إلى القاهرة برئاسة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، ولقاؤه وزير الدفاع المصري وكبار القادة العسكريين، لتكشف عن جانب آخر من الاستعداد الإقليمي.


اللقاء لم يكن بروتوكوليًا، بل اتسم بعمق استراتيجي، حيث جرى التباحث في ملفات إقليمية ملتهبة: من غزة التي تمسّ الأمن القومي المصري مباشرة، إلى الحدود الأردنية التي تشهد ضغوطًا متصاعدة من جانب إيران وحلفائها.


القاهرة تسعى لتعزيز شبكة التنسيق العسكري العربي لمواجهة تهديدات متزايدة على جبهات متعددة، فيما ترى عمّان أن شراكتها مع مصر تمنحها قدرة أكبر على مواجهة التحديات، خصوصًا في ظل ضغوط متزايدة على الحدود الشرقية والجنوبية.


هذا التنسيق، وإن بدا محدودًا في لحظته، إلا أنه يعكس إدراكًا متزايدًا لدى الدول العربية بأن موجة "إعادة التموضع" في الإقليم لا يمكن تركها لواشنطن أو تل أبيب وحدهما.

 

الإقليم على حافة "حماقة استراتيجية"

عند جمع هذه التفاعلات معًا – الانسحاب الأميركي باتجاه كردستان، الضربات الإسرائيلية في اليمن، الانسداد الدموي في غزة، والتنسيق العسكري المصري – الأردني – تتضح صورة أشمل: الإقليم بأكمله يدخل مرحلة إعادة ترتيب أولويات ميدانية لم تحسمها حرب غزة، ولا مواجهة إيران وإسرائيل، ولا محاولات استنزاف الأذرع المسلحة.


لكن ما يجعل هذه المرحلة أكثر خطورة هو ارتفاع منسوب "الحماقة الاستراتيجية". فالأطراف جميعها تتحرك بدوافع قلق وضغط، وليس ضمن رؤية عقلانية شاملة، ما يجعل هامش الخطأ أوسع، وكلفته أعمق. وفي منطقة مشبعة بالتوتر، قد يتحول أي خطأ تكتيكي صغير إلى شرارة مواجهة إقليمية لا يملك أحد ترف السيطرة على مسارها. 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 8 + 9