في خطوة تُعدّ الأولى من نوعها منذ سنوات، شرع حاكم مصرف لبنان كريم سعيد بإعداد ميزانية المصرف المركزي، ما يشير إلى تحرك جدي لمعالجة تداعيات الأزمة المالية التي عصفت بالبلاد منذ عام 2019، والتي تسببت في تجميد الودائع وتدهور قيمة العملة المحلية بشكل غير مسبوق.
صحيفة "الأنباء" الكويتية قالت إن إعداد الميزانية يشكّل الحلقة الأولى في مسار حل أزمة الودائع، التي استنزفت ثقة اللبنانيين في النظام المصرفي، ويأتي ذلك بعد ست سنوات من الجمود والارتجال المالي الذي ترك ملايين المودعين في حالة من الضياع المالي شبه الكامل.
الفجوة المالية: من 82 مليار إلى نحو 50
وفق مصادر مصرفية واقتصادية، بدأ حاكم المصرف وفريقه ولجنة الرقابة على المصارف دراسة ما يعرف بـ "الفجوة المالية"، وهي الفرق بين الأصول والالتزامات المتاحة، وقدّرته الجهات الرسمية بنحو 82 مليار دولار.
الخبير الاقتصادي محمود جباعي أوضح أن الهدف الأساسي من العملية هو تخفيض هذا الرقم عبر مراجعة الشيكات المصرفية التي تم تداولها بعد الأزمة بأسعار تقلّ عن قيمتها الأصلية، بحيث يُعاد كل شيك إلى قيمته الفعلية عند تاريخ الإيداع. وأكد أن هذه الطريقة ستساهم في إعادة العدالة المالية، فضلاً عن النظر في الأموال غير الشرعية والفوائد المرتفعة وحسمها، ما قد يخفض الفجوة إلى نحو 50 – 51 مليار دولار.
في المقابل، شدّد خبراء على أن هذه الإجراءات لا تعني شطباً للودائع، إذ إن أي طريقة لحل الأزمة، سواء عبر "bail in" أو غيرها، تهدف إلى حماية النظام المالي وتوزيع الخسائر بطريقة محسوبة، وليست بمثابة إلغاء للحقوق المالية للمودعين.
ميزانية المصرف المركزي: أرقام وحسابات
تُركز الميزانية التي يعمل عليها حاكم المركزي على تقدير الموجودات والالتزامات. وتشمل الموجودات نقداً وذهباً وعقارات وشركات يديرها المصرف، بينما تتضمن الالتزامات الديون المستحقة للمصارف ودين اليوروبوندز، إضافة إلى ديون الدولة على المصرف، والتي تبلغ نحو 16.5 مليار دولار منذ عام 2008.
د. جباعي أشار إلى وجود نقاش مستمر بين مصرف لبنان ووزارة المالية حول ما إذا كان سيتم تسديد هذه الديون بالليرة اللبنانية أم بالدولار الأميركي، وهو قرار محوري يحدد فعلياً أثر الميزانية على الاقتصاد الكلي واستقرار العملة المحلية.
جدل داخلي وتأثيرات محتملة
مع أن الخطوة تُعتبر تقدّماً في معالجة الأزمة، يرى مراقبون أنها لا تزال محكومة بعوامل عدة، أبرزها الموقف السياسي الداخلي والتوافق بين مصرف لبنان ووزارة المالية، إضافة إلى الضغوط الخارجية من صندوق النقد الدولي والدائنين الدوليين.
ويشير المحللون إلى أن الشروع في إعداد الميزانية يُمثل إشارة إلى تحرّك نحو مزيد من الشفافية والمساءلة المالية، وقد يُفتح الباب أمام خطوات لاحقة لمعالجة الأزمة البنكية وإعادة الثقة تدريجياً بين المصرف والمودعين، شرط أن تترافق هذه الإجراءات مع خطة واضحة ومقنعة على المستوى السياسي والاقتصادي.
خطوة نحو حل جزئي أم بداية التعافي؟
يمكن اعتبار هذه الخطوة علامة إيجابية، لكنها ليست نهاية المطاف. إعداد ميزانية المصرف المركزي يشكل أساساً ضرورياً لإطلاق أي خطة لمعالجة الفجوة المالية والودائع المجمدة، لكنه يعتمد على قدرة السلطات اللبنانية على فرض آليات دقيقة للتنفيذ، وضمان التزام المصارف والبنوك المعنية.
من جهة أخرى، فإن تحديد حجم الفجوة بشكل أدق وتخفيضها عبر إعادة تقييم الشيكات والودائع المشبوهة يُعدّ أمراً مركزياً لتجنب أي تضارب مالي مستقبلي، ولتأمين توزيع عادل للخسائر بين جميع الأطراف.
في الختام، تبدو الخطوة الحالية علامة على جدية مصرف لبنان في مواجهة أزمة استثنائية، لكنها محفوفة بالتحديات الداخلية والخارجية. الحل النهائي يتطلب توازناً دقيقاً بين مصالح المودعين، ومتطلبات الاستقرار المالي، وضغوط الدائنين الدوليين، وهو ما يجعل من متابعة هذا الملف أمراً بالغ الأهمية خلال الأشهر المقبلة.