سلاح إسرائيل الأخطر

2025.08.24 - 09:46
Facebook Share
طباعة

 في قلب الصراع العربي الإسرائيلي، لم يكن السلاح وحده هو الفيصل، بل الرواية. فإسرائيل، منذ نشأتها، أدركت أنّ السيطرة على السردية تعني البقاء، وأن ما يُكتب ويُبث ويُتناقل في الإعلام الغربي أهم من نتائج المعارك العسكرية. الرواية المهيمنة قادرة على إخفاء الضحايا، تبرير الجرائم، وتحويل الجلاد إلى ضحية.


يصف مفكرون غربيون إسرائيل بأنها “الحصن الغربي” في الشرق الأوسط، وأن استمرار دعمها السياسي والعسكري مرتبط بمدى نجاحها في صياغة رواية متماسكة، ولو كانت مشوهة. تاريخياً، لعب الرأي العام دوراً محورياً في كبح السياسات العسكرية: الجماهير البريطانية والفرنسية أوقفت العدوان الثلاثي عام 1956، وفضح صور ومقالات حرب فيتنام جرائم واشنطن. لهذا تفهم إسرائيل أن المعركة على “الكلمة” لا تقل خطورة عن المعركة على “الأرض”.


بين هيروشيما وغزة
من أبرز الأمثلة على قوة الرواية، تقرير الصحفي الأميركي جون هيرسي عام 1946 عن هيروشيما. لم يقدّم أرقاماً مجردة، بل حكايات إنسانية مؤلمة لستة ناجين. كان الأثر مدمراً على الوعي الأميركي، إذ أيقظ الأسئلة الأخلاقية التي لم تثرها تقارير البنتاغون. الأمر ذاته تكرر مع صورة الطفلة اللبنانية عام 1982 التي دفعت الرئيس رونالد ريغان لوصف ما يجري بـ”الهولوكوست”، ومع صورة محمد الدرة في غزة التي تحولت إلى أيقونة عالمية رغم محاولات التشكيك بها.


صناعة الحقيقة المشوهة
الصهيونية أتقنت لعبة “اختراع الرواية”. في ثلاثينيات القرن الماضي، أطلقت صحفاً ودوريات شكلت المرجع الأساسي للصحافة الغربية، فاختفت فلسطين تدريجياً من المشهد لتحل محلها عبارة “أرض بلا شعب”. لاحقاً، صارت رواية الهولوكوست الركيزة الكبرى التي حمت إسرائيل أخلاقياً وقانونياً. حتى حرية البحث الأكاديمي صارت مقيدة بقوانين مثل “قانون غيسو” في فرنسا، الذي يجرم أي مراجعة علمية لرواية المحرقة.


الأرقام تكشف تناقضات السردية: أقل من 4% من يهود أوروبا الغربية هاجروا إلى فلسطين، بينما الغالبية من أصول شرقية (السفارديم والمزراحي). الناجون من المحرقة في إسرائيل قلة نادرة، ومع ذلك ربطت الدولة وجودها بالهولوكوست لتكسب غطاء أخلاقياً غربياً، خصوصاً في ألمانيا التي رأت في دعم إسرائيل تعويضاً عن “الذنب التاريخي”.


السيطرة عبر الرقابة والضغط
في الثمانينيات برزت منظمة “كاميرا” (CAMERA)، وهي شبكة ضغط ترصد كل ما يُكتب عن الشرق الأوسط في الإعلام الأميركي والبريطاني. عبر الشكاوى، التهديدات، والدعوات إلى المقاطعة، نجحت في فرض تعديل مضامين كثيرة. أحدث الأمثلة كان اعتراضها على تقرير لصحيفة غارديان ذكر أن جميع ضحايا غزة مدنيون، فاضطرت الصحيفة لتبديل العبارة إلى “أغلبهم مدنيون”.


الأمر لا يقتصر على منظمات، بل يشمل صحفاً ضخمة مثل بيلد الألمانية التي تكرس صفحاتها للدفاع عن إسرائيل منذ 1967. حتى مؤسسات بحجم بي بي سي تراجعت عن بث أفلام وثائقية حول غزة بسبب الضغوط.


رواية تتصدع
رغم نجاح إسرائيل في احتكار الرواية لعقود، فإن التحولات التكنولوجية، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي، بدأت تكسر احتكارها. صور الهواتف من غزة تنتشر أسرع من بيانات الجيوش، وأصوات الضحايا تصل مباشرة إلى الجمهور. ومع ذلك، تحاول الرواية الإسرائيلية التكيف عبر التركيز على مشاهد “المساعدات الإنسانية” لتغطية على جريمة التجويع، كما حدث مؤخراً.


حتى تصريحات رسمية كتصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس في برلين عام 2022، حين قال إن إسرائيل ارتكبت “50 هولوكوست ضد الفلسطينيين”، قوبلت بتجريم قانوني فوراً، في إشارة إلى قوة الرقابة المفروضة على أي سردية مناوئة.


معركة الثقافة
الرواية الملوثة ليست مجرد خطاب إعلامي، بل بنية كاملة من القوانين والضغوط والسياسات. هي أداة وجودية لإسرائيل في الغرب. لكن مع تغير موازين القوى وصعود وسائط بديلة، باتت هذه الرواية تتعرض لتصدعات جدية. ما يجري اليوم ليس مجرد مواجهة عسكرية في غزة أو الضفة، بل نزال ثقافي طويل على من يملك حق رواية القصة.


كما قال وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف: “المعركة ليست فقط على الأرض، بل على الكلمة”. فطالما نجحت إسرائيل في إخفاء الحقيقة وراء خطابها الملوّث، حافظت على الغطاء الدولي. لكن معركة الرواية لم تُحسم بعد، وقد تكون هي المفتاح لتغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط.

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 1 + 8