في الأشهر الأخيرة، شهد لبنان ارتفاعاً ملحوظاً في عدد العاملين عن بُعد لشركات أوروبية وآسيوية، بعضها تخضع لعقوبات دولية، من دون الانتقال الجسدي أو توقيع عقود عمل تقليدية. ويعكس هذا التوجه تلاقياً بين العرض والطلب: شركات تبحث عن كفاءات بسرعة وتكلفة معقولة، وشباب لبناني يسعى للحصول على دخل بالدولار يُدفع بانتظام.
العمل عن بُعد يبدو للوهلة الأولى بسيطاً، لكنه ينطوي على تعقيدات قانونية ومصرفية. فغالبية الشركات لا توقع العقود من عناوينها الأصلية، بل عبر كيانات وسيطة في دول ثالثة. يحصل العامل على عقد إلكتروني يحدد نطاق العمل وساعات الأداء والأجر، مع مدفوعات أسبوعية أو شهرية. جزء من المبالغ يُحول عبر محافظ رقمية مثل USDT، وجزء آخر يمر عبر شركات دفع معتمدة، لتقليل الاحتكاك مع البنوك التقليدية وتسريع التصفية المالية. ومع ذلك، يبقى التدقيق القانوني على عاتق العامل نفسه.
أبرز المخاطر تتمثل في العقوبات الدولية. فالتعاقد مع شركات روسية أو إيرانية لا يعني تلقائياً مخالفة، إلا أن أي ارتباط غير مباشر بكيان مُدرج على لوائح أميركية أو أوروبية يمكن أن يسبب مشكلات فعلية، مثل إقفال حساب مصرفي أو منع تحويل الأموال. يشدد المحامون المختصون بالامتثال على ضرورة التأكد من أن العميل النهائي لا يرتبط بقطاعات محظورة، وغالباً يطلب العاملون تعهداً خطياً من الشركة بذلك.
المصارف المحلية تتعامل بحذر مع أي إيداع غير موثق المصدر، مطالبة بعقود وفواتير ورسائل تثبت طبيعة الخدمة. ووفق العاملين، أصبحت “سمعة الحساب” عنصرًا حيويًا: تنظيم الوثائق، توثيق قصة العمل، وضمان عدم دخول مبالغ كبيرة دفعة واحدة. فبدون ذلك، يصبح من الصعب فتح اعتماد مصرفي أو إجراء عمليات لاحقة، حتى لو كانت الأموال "نظيفة".
من الناحية الضريبية، يُعتبر الدخل الناتج عن خدمات تُقدَّم من لبنان خاضعاً للضرائب، حتى لو كان مصدره شركة أجنبية. لذلك، ينصح المستشارون الضريبيون بالتصريح السنوي وفوترة المشاريع باسم فرد أو شركة ناشئة صغيرة، لتوفير غطاء قانوني يسهّل التعاملات الخارجية مستقبلاً.
الأمن الرقمي أيضاً عامل أساسي. العمل لشركات في دول متخاصمة يزيد احتمالات التعرض للتصيّد أو الاختراق، أو مشاكل في الملكية الفكرية. لذلك، يفصل العاملون حسابات المشاريع الحساسة عن حساباتهم الشخصية، ويضعون قيود وصول دقيقة لمستودعات الشيفرات، ويفصلون المحافظ الرقمية عن أجهزة العمل المشتركة. هذه الإجراءات تقلل المخاطر لكنها لا تلغيها تماماً.
في المحصلة، يشكّل العمل عن بُعد مع دول متخاصمة فرصة للدخل بالدولار لمئات الكفاءات اللبنانية، لكنه يحمل معه تحديات قانونية ومصرفية وأمنية. السرعة التي توفرها طرق الدفع البديلة لا تلغي الحاجة للتدقيق في هوية العميل، والعقود والوثائق تظل العنصر الأهم لضمان أن يكون الدخل مشروعاً وآمناً. وبين الحاجة الاقتصادية والواقع السياسي المعقّد، يختبر اللبنانيون يومياً قدرتهم على العمل بأمان في أسواق متشابكة ومعقدة من دون الانزلاق في شبكات العقوبات أو الوقوع في قيود مصرفية صارمة.