في خضم الأحداث الدامية التي شهدتها محافظة السويداء جنوبي سوريا منذ منتصف تموز/يوليو الماضي، برزت معارك موازية على جبهة الإعلام، حيث انتشرت أرقام وإحصاءات متناقضة حول أعداد البدو ونسبة وجودهم في المحافظة. وبينما غذّت بعض وسائل الإعلام والمحتوى الرقمي هذه الأرقام دون تحقق، تكشف الوثائق الرسمية عن صورة مختلفة تماماً، ما يثير تساؤلات حول دوافع التلاعب بالمعلومات في لحظة بالغة الحساسية.
فوضى في الأرقام وتضليل إعلامي
مع تصاعد الاشتباكات بين مجموعات درزية محلية من جهة، وعشائر بدوية مدعومة من قوى أمنية وعسكرية من جهة أخرى، بدأ الحديث يتسرب حول أعداد البدو في السويداء. فقد نشرت صحيفة العربي الجديد في 17 تموز تقريراً ذكرت فيه أن عدد البدو يبلغ 250 ألف شخص يشكلون ثلث سكان المحافظة. وفي 21 تموز، نقلت صحيفة الشرق الأوسط عن أحد وجهاء العشائر أن نسبتهم تصل إلى 30% من السكان.
الأمر لم يتوقف هنا؛ بل بثت الجزيرة مباشر مقطعاً مصوراً على "إنستغرام" تحت عنوان: “تعدادهم 250 ألف نسمة”، من دون أن تشير لأي مصدر موثق. بالتوازي، شهدت منصات التواصل الاجتماعي، خصوصاً "إكس"، تداولاً لأرقام مضخمة وصلت إلى الحديث عن نزوح 150 ألف بدوي جراء المعارك.
الوقائع وفق الأمم المتحدة
على الجانب الآخر، أصدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تحديثاً في 14 آب/أغسطس، أكد فيه أن أعداد النازحين من السويداء تجاوزت 190 ألف شخص، لكنه لم يميز بين نازحين دروز أو بدو، بل تحدث عن النازحين عموماً سواء داخلياً أو إلى محافظات مجاورة. هذا الغياب للتفصيل فتح الباب واسعاً أمام التفسيرات والتلاعب الإعلامي، خصوصاً أن الصراع اتخذ منحىً هوياتياً حساساً.
الوثائق الرسمية تكشف الحقيقة
أحدث وثيقة رسمية صادرة عن دائرة النفوس في السويداء بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 2023، والمصادق عليها من قبل المحافظ الأسبق بسام ممدوح بارسيك، حسمت الجدل. إذ أظهرت أن إجمالي سكان المحافظة يبلغ 569,861 نسمة، بينهم 33,122 فقط من البدو. أي أن نسبتهم لا تتجاوز 5.81% من سكان السويداء، وهو رقم بعيد تماماً عن النسب التي تحدثت عنها بعض التقارير (30% أو ثلث السكان).
وفيما يتعلق بالنزوح، كشفت بيانات وزارة الكوارث والطوارئ السورية أن عدد النازحين البدو حتى 9 آب/أغسطس 2024 بلغ 28,768 شخصاً، ما يفند الادعاءات التي تحدثت عن نزوح 150 ألفاً.
لماذا تُفبرك الأرقام؟
تضخيم الأعداد لم يكن مجرد خطأ عابر، بل أداة وظفتها أطراف مختلفة في النزاع، إما لتبرير تدخلات خارجية أو لإضفاء شرعية على مواقف سياسية وميدانية. إذ يؤدي الحديث عن وجود كثافة بدوية كبيرة إلى تصوير الصراع كمعركة بين "مكونين متكافئين"، بينما الأرقام الحقيقية تعكس واقعاً مغايراً. كما أن ترويج أرقام النزوح الضخمة يضخم حجم الكارثة، ويضعف الثقة في أي معالجات حكومية أو دولية.
دروس من التضليل
القضية تكشف هشاشة التعامل الإعلامي في أوقات الأزمات، حيث تُستغل المنصات لنشر أرقام بلا مصادر، وتتحول وسائل إعلام كبرى إلى قنوات لإعادة تدويرها. وفي ظل غياب الشفافية وصعوبة الوصول للمعلومات الميدانية، يجد الجمهور نفسه أمام "حقيقة بديلة" يصعب التحقق منها إلا عبر الوثائق الرسمية.
ما جرى في السويداء يثبت أن المعارك لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بالكلمة والرقم أيضاً. وبينما تؤكد الإحصاءات الرسمية أن نسبة البدو لا تتجاوز 6% من سكان المحافظة، يبقى خطر التلاعب بالأرقام قائماً، خاصة عندما يتصل بقضايا حساسة تمس الهوية والانتماء. وهنا يبرز الدور الحاسم للتدقيق والتحقق، ليس فقط لكشف الأكاذيب، بل لحماية المجتمعات من الانزلاق نحو صراعات تُبنى على معلومات مفبركة.