في خطوة وصفتها الأوساط الأكاديمية والسياسية بـ"الاستراتيجية والجدلية"، تقدمت الحكومة الإسرائيلية بمشروع قانون ينقل مسؤولية المواقع الأثرية في الضفة الغربية من الإدارة المدنية التابعة لوزارة الدفاع إلى سلطة الآثار الإسرائيلية (IAA). بينما يُعلن المشروع رسميًا عن هدف حماية التراث الثقافي، يرى خبراء الآثار الفلسطينيون والدوليون أنه يندرج ضمن استراتيجية أوسع لتعزيز النفوذ والسيطرة على الأراضي والمواقع التاريخية، بما يعكس بعدًا سياسيًا أكثر من كونه ثقافيًا.
الضفة الغربية مقسمة وفق اتفاقيات أوسلو إلى ثلاث مناطق:
المنطقة A: تخضع بالكامل للسلطة الفلسطينية، بما في ذلك الشؤون المدنية والأمنية.
المنطقة B: السلطة الفلسطينية مسؤولة عن الشؤون المدنية، بينما تبقى إسرائيل مسؤولة عن الأمن.
المنطقة C: تشكل أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، وتخضع للسيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة، وتضم غالبية المستوطنات الإسرائيلية ومواقع أثرية استراتيجية.
حتى الآن، كانت الإدارة المدنية الإسرائيلية مسؤولة عن إدارة المواقع الأثرية في المنطقة C، في حين كانت السلطة الفلسطينية تدير المواقع في المناطق A وB. مشروع القانون الجديد يقضي بنقل كل السلطات إلى سلطة الآثار الإسرائيلية، وهو ما يطرح مخاوف من استخدام إدارة التراث الثقافي لتعزيز النفوذ الإسرائيلي على الأرض.
تحتوي الضفة الغربية على آلاف المواقع الأثرية التي تعكس تاريخ حضارات متعددة، من الكنعانيين والرومان إلى العثمانيين. معظم هذه المواقع يقع قرب مستوطنات إسرائيلية أو مخططات لإنشاء مستوطنات جديدة، وهو ما يثير مخاوف من توظيف التراث كأداة سياسية. إدارة المواقع الأثرية بشكل أحادي يمكن أن تُستخدم لإضفاء شرعية على المستوطنات القائمة أو الجديدة، وربط الرواية التاريخية بالوجود الإسرائيلي، وهو ما يهدد الرواية التاريخية الفلسطينية.
المنطقة C: تحتوي على معظم المواقع الأثرية المهمة، بما فيها المدن الرومانية القديمة والمستوطنات القريبة من طرق التجارة التاريخية، وهذه المواقع تمثل نقاط استراتيجية يمكن استخدامها لتبرير السيطرة الإسرائيلية على الأراضي.
المناطق A وB: رغم وجود مواقع أثرية، إلا أن السلطة الفلسطينية تملك صلاحيات محدودة لحمايتها، ما يجعل أي تدخل إسرائيلي قانونيًا وغير مباشر لتعزيز النفوذ.
من الناحية القانونية، ينقل مشروع القانون الصلاحيات من الإدارة المدنية، وهي جهة عسكرية، إلى سلطة الآثار، وهي جهة مدنية. على الورق، يبدو هذا تحسنًا في إدارة التراث، لكنه عمليًا يعزز الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة C، ويقلص قدرة السلطة الفلسطينية على التحكم بمصير التراث الثقافي الفلسطيني.
السياسيون الإسرائيليون يدافعون عن القانون باعتباره وسيلة لحماية المواقع من الإهمال، بينما يشير محللون إلى أن الهدف الأبعد هو خلق رواية تاريخية إسرائيلية موحدة للضفة الغربية، وربط التراث بالوجود الإسرائيلي، بما يسهل أي خطوات لاحقة نحو ضم فعلي.
سلطة الآثار الإسرائيلية نفسها أبدت تحفظات، معتبرة أن المشروع قد يضر بعلاقاتها الأكاديمية مع جهات دولية، ويؤثر على سمعتها المهنية. من جانب آخر، علماء آثار فلسطينيون ودوليون أشاروا إلى أن القانون يمثل تهديدًا لمبادئ التعاون الثقافي الدولي، وقد يُستخدم لتقييد عمل الفلسطينيين في أراضيهم التاريخية.
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) حذرت بشكل غير رسمي من أي خطوات قد تُقوّض الإدارة الفلسطينية للتراث في الضفة، معتبرة أن أي تحركات أحادية الجانب قد تؤدي إلى توتر إضافي وتقويض الحوار الثقافي بين الأطراف.
بينما يُعلن المشروع عن هدف حماية التراث الثقافي، يظهر التحليل المكاني والسياسي أن هناك بعدًا استراتيجيًا له يتجاوز حماية المواقع، ليصبح أداة لترسيخ النفوذ والسيطرة على الضفة الغربية. يبقى التحدي في إيجاد توازن بين حماية التراث التاريخي، واحترام الحقوق القانونية والسياسية للفلسطينيين، في سياق صراع طويل الأمد على الأرض والهوية، وسط تكتيكات تستخدم الثقافة كوسيلة للسيطرة.