في تطور يكشف جانبًا خفيًا من كواليس المفاوضات حول غزة، برزت تصريحات لافتة للمتحدث السابق باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر، أكد فيها أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان السبب المباشر وراء فشل محاولات التهدئة وتبادل الأسرى، وليس حركة حماس كما روّجت تل أبيب طوال الأشهر الماضية. هذه الإفادة التي جاءت عبر الإعلام الإسرائيلي نفسه، حملت رسائل متعددة تتجاوز لحظة الحرب لتدخل في عمق الحسابات السياسية والاستراتيجية.
الرواية الأميركية: تل أبيب هي المعرقل
بحسب ميلر، فإن إدارة بايدن درست في أكثر من محطة توجيه اتهام علني لنتنياهو بعرقلة المفاوضات، لكنها تراجعت عن ذلك خشية أن تستثمر حماس هذا الشرخ بين واشنطن وحليفها الأوثق. ومع ذلك، تكشف التفاصيل أن المواقف الإسرائيلية لم تكن مجرد تحفظات تكتيكية، بل تشديد متعمد لإفشال أي مسار تفاوضي.
من رفح إلى "ممر فيلادلفيا": هدم الوساطات
في أبريل 2024، حاولت واشنطن تمرير مقترح هدنة من ستة أسابيع لتأجيل الهجوم على رفح. غير أن نتنياهو أعلن بوضوح أن الجيش سيدخل رفح "سواء كانت هناك هدنة أم لا"، لتفقد المبادرة أي جدوى. لاحقًا، تسربت أنباء داخلية من إسرائيل أفرغت مبادرة بايدن في مايو من مضمونها. وفي يوليو، ورغم تجاوب حماس، أضاف نتنياهو شرطًا جديدًا يتعلق ببقاء القوات الإسرائيلية في ممر فيلادلفيا على الحدود مع مصر، ليغلق الباب أمام أي توافق. بل إن تقارير إسرائيلية أشارت إلى رفضه لاحقًا مقترحًا أمنيًا كان سيسمح بصفقة تبادل، انتظارا لعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
حرب بلا أفق سياسي
في النقاشات الأميركية–الإسرائيلية، حذّر وزير الخارجية أنطوني بلينكن من أن غياب خطة اليوم التالي سيعني تمردًا طويل الأمد في غزة، وانفجارًا في الضفة الغربية، وفقدان فرصة التطبيع العربي. لكن نتنياهو ردّ بعبارة صادمة: "سنقاتل هذه الحرب لعقود قادمة". هذا التصريح يعكس منطقًا يقوم على إدارة الصراع لا حله، ما يعني أن الميدان سيبقى ساحة استنزاف مفتوح.
غزة بين التجويع والاتهامات الدولية
على الأرض، تواصلت الكارثة الإنسانية: أكثر من نصف مليون فلسطيني يواجهون مجاعة موثقة، فيما وصف مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ذلك بأنه "تجويع كسلاح حرب". ومع سقوط أكثر من 62 ألف قتيل بحسب الإحصاءات الرسمية – وسط تقديرات غير رسمية تصل إلى 200 ألف – تحولت غزة إلى ملف جنائي دولي. فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه الأسبق غالانت، ورفعت قضية إبادة جماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
بين الدعم الأميركي والضغط الدولي
ورغم هذه الملاحقات، ما تزال واشنطن تمنح تل أبيب غطاء سياسيًا وعسكريًا بقيمة 3.8 مليار دولار سنويًا. المفارقة هنا أن الاعتراف الأميركي بتعنت نتنياهو يترافق مع استمرار الدعم غير المشروط له، ما يطرح تساؤلات حول جدوى الضغوط الدولية في غياب تحول حقيقي في الموقف الأميركي.
منذ انطلاق الحرب على غزة، تراوحت المساعي بين المبادرات المصرية–القطرية والدفع الأميركي لتثبيت تهدئة، لكن ما تكشفه الاعترافات الأخيرة يعيد ترتيب المسؤوليات: إسرائيل، بقرار قيادتها السياسية، أفشلت فرص التهدئة مرارًا. وإذا كان نتنياهو يصر على خوض "حرب لعقود"، فإن ذلك لا يترك مجالًا لتسوية قريبة، بل يرسخ منطق الاحتلال والحصار بوصفه خيارًا استراتيجيًا. هنا، تبرز المفارقة الأكبر: أن الكارثة الإنسانية في غزة لم تعد مجرد نتاج حرب قاسية، بل نتيجة مباشرة لقرار سياسي مدروس في تل أبيب، يجري تثبيته بغطاء أميركي رغم تصاعد الاتهامات الجنائية الدولية.