القرية الاستيطانية الأولى على الحدود المصرية–الإسرائيلية.. بين الادّعاء والوقائع

أماني إبراهيم- وكالة أنباء آسيا

2025.08.23 - 08:07
Facebook Share
طباعة

على حدود مصر–غزة–إسرائيل، وفي نقطة بالغة الحساسية قرب معبر كرم أبو سالم، خرجت رواية مثيرة عن احتفال وزير الزراعة والأمن الغذائي الإسرائيلي أفي ديختر بتدشين قرية استيطانية جديدة، تُقدَّم ظاهريًا كـ“قرية زراعية”، لكن خلف واجهة الزراعة يطل وجهٌ آخر: عسكرة الحدود عبر تحويل الجنود المسرّحين إلى مستوطنين يحملون المحراث بيد والبندقية بالأخرى. هذه الرواية إن صحت، فهي ليست مجرد حدث محلي عابر، بل إعلان عن اتجاه استراتيجي طويل المدى، يربط “أمن الغذاء 2050” بتغيير طبيعة الحزام الحدودي في أكثر نقاط الإقليم حساسية.

 

الوقائع المؤكدة حتى اللحظة تكشف وجود سياسة إسرائيلية معلنة تحت عنوان “الأمن الغذائي 2050”. الوزارة الجديدة –وزارة الزراعة والأمن الغذائي– تعلن في أوراقها واجتماعاتها الرسمية أن الأمن الغذائي ليس ترفًا اقتصاديًا، بل قضية أمن قومي ممتدة لعقود. هنا يتقاطع الخطاب الزراعي مع الرؤية العسكرية، إذ تتحول الأرض المزروعة إلى جزء من استراتيجية الدفاع والتمدد. لكن في المقابل، لا تتوافر بعدُ أي وثائق أو صور أو أسماء رسمية تؤكد أن ديختر بالفعل قصّ شريط تدشين “قرية جديدة” قرب الحدود المصرية خلال الأيام الأخيرة. ما نملكه هو إطار سياسي–زراعي واضح، وسوابق تاريخية مشابهة، وخطط حكومية لتوسيع شريط بلدات “غلاف غزة”.

التاريخ الإسرائيلي مليء بأمثلة الدمج بين الزراعة والأمن. نموذج “النحال” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي أسّس لفكرة “المزارع–المقاتل” الذي يحرس الأطراف عبر زرع الأرض وحمل السلاح. كثير من نقاط النحال تحولت لاحقًا إلى بلدات مدنية قائمة، لكن وظيفتها الأمنية الأصلية لم تغب عن الذاكرة. اليوم، ومع شعار “الأمن الغذائي 2050”، يبدو أن تل أبيب تعيد تدوير الفكرة نفسها بغطاء اقتصادي–تنموي، وتحوّلها إلى سياسة طويلة المدى. إبراز قصة “جندية تتحول إلى مزارعة على الحدود” يدخل في هذا السياق: إعادة إنتاج صورة رمزية تعبّر عن أن الزراعة نفسها جزء من العقيدة القتالية.

 

أما جغرافيًا، فالمثلث الحدودي (مصر–غزة–إسرائيل) ليس مجرد مساحة مفتوحة، بل نقطة تماس تتقاطع فيها ترتيبات كامب ديفيد الأمنية، ووجود قوات المراقبة الدولية (MFO)، وحساسيات ممر صلاح الدين/فيلادلفي. أي محاولة لإقامة عمران جديد ذي طابع أمني ملتصق بالخط المصري تُقرأ مباشرة كإعادة تشكيل لتوازنات ما بعد 1979. من هنا، فإن مجرد تداول فكرة “قرية استيطانية جديدة” على مسافة 11 كيلومترًا من كرم أبو سالم يُشكل رسالة سياسية أكثر منه مشروعًا زراعيًا، حتى وإن لم تُوثَّق التفاصيل كاملة بعد.

المشهد يتعقّد أكثر بالنظر إلى شبكة البلدات القائمة أصلًا. منطقة هالوتسا وحوف شالوم تعج بموشافات مثل شلوميت ونافيه وبني نيتساريم، أُنشئت لتوطين مُخلَّي “غوش قطيف” بعد الانسحاب من غزة عام 2005. هذه البلدات تلاصق الحدود المصرية وتُقدَّم كخط زراعي–أمني متكامل. وبالتالي، فإن الحديث عن “قرية جديدة” ليس خروجًا على مألوف، بل إضافة إلى منظومة قائمة بالفعل، هدفها ترسيخ حزام سكاني–زراعي يعمل كجدار دفاعي بشري في مواجهة أي طارئ أمني أو سياسي.

 

من زاوية مصر، القضية ليست مجرد “زراعة إسرائيلية” على الضفة الأخرى. القاهرة تتابع بدقة كل ما يُغيّر معادلة الحدود الشرقية، خاصة في ظل استمرار الحرب على غزة، والجدل الدائر حول ممر صلاح الدين. أي توسع استيطاني–زراعي مشبع بالبعد الأمني قد يُفهم كخطوة لفرض وقائع جديدة، أو لخلق خطوط تماس تُعقّد ترتيبات ما بعد الحرب. وهو ما يعني أن القاهرة معنية بقراءة المشهد في بُعدين: الأول أمني–قانوني يستند إلى ملحقات كامب ديفيد، والثاني سياسي–إعلامي يتطلب توضيح الفارق بين “تنمية زراعية” و“توسّع استيطاني مقنّع”.

 

في النهاية، يمكن القول إن الرواية حول “القرية الاستيطانية الأولى على الحدود المصرية–الإسرائيلية” حتى الآن تفتقر إلى التوثيق العلني بالاسم والموقع والصورة، لكنها تكتسب صدقية سياسية من سياق قائم: سياسة رسمية للأمن الغذائي 2050، تاريخ طويل من عسكرة الزراعة، وحزام بلدات استيطانية فعلي قائم بمحاذاة الحدود المصرية. الرسالة، إذن، واضحة: تل أبيب تسعى لإعادة إنتاج “المزارع–المقاتل” كأداة لتثبيت وجودها في أخطر نقطة حدودية، فيما تظل القاهرة مطالَبة بقراءة الخطوة كجزء من معركة أوسع حول شكل ما بعد الحرب في غزة، وترتيبات الأمن على حدودها الشرقية.

 

 

: نحال عزوز وبدايات الاستيطان الحدودي

تاريخيًا، يُعتبر كيبوتس نحال عزوز الذي أُقيم عام 1956 أول نقطة استيطانية–عسكرية أقامتها إسرائيل على الحدود مع مصر في النقب الغربي. تأسس الكيبوتس كجزء من مشروع “النحال” (وحدات الشباب المقاتلين الزراعيين)، حيث كان الجنود يؤسسون نقاطًا زراعية تحمل في جوهرها وظيفة أمنية، فيتم زرع الأرض وحراستها في الوقت نفسه. لاحقًا، تطورت عزوز إلى بلدة مدنية قائمة، لكنها احتفظت بدورها الرمزي كأول لبنة في بناء الحزام الاستيطاني على الحدود المصرية. هذا النموذج المبكر أسّس لسياسة دمج الزراعة بالأمن، وأصبح قاعدة تستند إليها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في تطوير مشاريع مشابهة حتى يومنا هذا.

 

من نحال عزوز إلى "هالوتسا" و"غوش قطيف": تطور النموذج

بعد نجاح نموذج نحال عزوز في الخمسينيات، تبنّت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فكرة دمج الزراعة بالأمن كوسيلة للسيطرة على المناطق الحدودية. ومع مرور الوقت، توسّعت التجربة في اتجاهين:

مستوطنات "غوش قطيف" في قطاع غزة، التي أُقيمت لاحقًا على نفس المنهج، حيث جرى توطين جنود مسرّحين مع عائلاتهم في مستوطنات زراعية–أمنية متقدمة. هذه المستوطنات كانت جزءًا من مشروع فرض "أمن مدني" عبر الاستيطان، إلى أن أُخليت عام 2005 ضمن خطة الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من غزة.

 

مشروع "هالوتسا" (Halutza) في صحراء النقب، الذي بدأ مع مطلع الألفية، واعتُبر استكمالًا مباشرًا لسياسة بناء "قرى حدودية" على الأراضي القاحلة. ركّز المشروع على استقطاب عائلات شبابية، كثير منهم جنود سابقون، وتحويلهم إلى مزارعين مستوطنين في نقاط متقدمة قرب مصر وغزة.


بهذا المعنى، لم تكن القرية الجديدة التي دشنها أفي ديختر سوى حلقة إضافية في سلسلة ممتدة بدأت بـ"نحال عزوز" واستمرت بأشكال مختلفة عبر العقود، لتعيد إنتاج الفكرة القديمة: المستوطِن–الجندي الذي يحرس الحدود تحت غطاء الزراعة والتنمية.

 


اللافت في المشهد أن إسرائيل تعود اليوم، بعد أكثر من سبعين عامًا، إلى نفس النموذج الذي دشّنته في "نحال عزوز": القرية–الثكنة. لكن الفارق أن التوقيت الإقليمي الحالي أكثر تعقيدًا وحساسية؛ فبينما أُنشئت مستوطنة نحال عزوز في خمسينيات القرن الماضي لفرض حضور عسكري–زراعي على أطراف الدولة الوليدة، فإن القرية الجديدة تأتي وسط حرب مستمرة على غزة، توتر في العلاقات مع مصر، وضغط دولي متصاعد.

 

هذه العودة تحمل دلالتين خطيرتين:

1. إعادة تدوير عقيدة "الأمن بالاستيطان" التي أثبتت فاعليتها من منظور إسرائيلي، باعتبار أن تحويل الجندي إلى مزارع–مستوطن يضمن خط دفاع دائم لا يغادر الحدود.


2. رسم حزام استيطاني عسكري–مدني جديد عند المثلث الحدودي (مصر–غزة–إسرائيل)، في خطوة قد تفتح بابًا لصدام مباشر مع مصر أو على الأقل تُعقّد أي ترتيبات أمنية مستقبلية.

 

 

بهذا، يتضح أن ما يقدَّم على أنه "مشروع زراعي" ليس سوى امتداد لعقيدة قديمة، لكنها تُستدعى اليوم في لحظة سياسية ملتهبة، ما يجعلها أكثر تهديدًا للأمن الإقليمي من أي وقت مضى.


 

Facebook Share
طباعة عودة للأعلى
اضافة تعليق
* اكتب ناتج 6 + 5