ديناميات المجاعة في غزة تكشف تحولاً متعمداً في إدارة المساعدات فبدلاً من النموذج المدني الذي أثبت كفاءته في إيصال الغذاء عبر شبكات محلية ودولية، جرى اعتماد نموذج عسكري يضع المدنيين تحت شروط أمنية صارمة ويجعل الحصول على الغذاء مرتبطاً بالتحكم والسيطرة هذا التحول لم يكن تفصيلاً إجرائياً، بل خطوة سياسية عميقة تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية في القطاع على قاعدة الاعتماد القسري، وتحول حياة الفلسطينيين اليومية إلى ساحة ابتزاز جماعي.
الأسباب المباشرة لهذه الكارثة تتجسد في الحصار الممتد منذ سنوات، ومنع إدخال شحنات غذائية وطبية أساسية، إلى جانب القيود المشددة المفروضة على المنظمات الإنسانية هذه السياسات حرمت مئات الآلاف من فرص النجاة، وخلقت فراغاً إنسانياً يزداد اتساعاً مع مرور الوقت وعلى المستوى الأبعد، أصبح التجويع جزءاً من عقيدة الحرب، حيث يُستخدم كسلاح لإخضاع السكان المدنيين، في ممارسة لا تقل فتكاً عن أدوات القصف المباشر.
في هذا السياق، جاء إعلان الأمم المتحدة عن وقوع المجاعة في غزة كتأكيد على أن الأزمة تجاوزت مرحلة التحذيرات إلى واقع موثق بالأرقام والمعايير الدولية التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أشار إلى أن أكثر من 514 ألف فلسطيني – أي ما يقارب ربع سكان القطاع – يعيشون المجاعة، مع توقعات بارتفاع العدد إلى أكثر من 640 ألفاً بنهاية سبتمبر.
هذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصاءات تقنية، وإنما شهادة أممية بأن غزة انضمت إلى قائمة قليلة ومأساوية من المناطق التي شهدت مجاعات مصنّفة رسمياً خلال العقد الأخير، مثل الصومال وجنوب السودان والسودان.
التداعيات لا تقف عند حدود القطاع المجاعة الراهنة تمثل اختباراً جدياً للقانون الدولي، وتضع مصداقية المؤسسات الأممية على المحك، خصوصاً مع تزايد المطالبات بفتح تحقيقات قد تُفضي إلى توصيف ما يجري كجريمة حرب كما أن استمرار المأساة يضع الحكومات الغربية أمام تساؤلات أخلاقية وسياسية صعبة، في وقت تواصل فيه بعض الدول تزويد إسرائيل بالسلاح رغم وضوح النتائج الكارثية على المدنيين.
لا يمكن فصل هذه المجاعة عن معادلات أوسع فاستمرارها يهدد بتأجيج الغضب الشعبي في العالم العربي والإسلامي، ويزيد من هشاشة الاستقرار في المنطقة. كما يفتح الباب أمام موجات نزوح جديدة في حال سمح المعبر الجنوبي بمرور المدنيين، ما سيضيف عبئاً على الدول المجاورة.
في النهاية، صناعة المجاعة في غزة ليست نتيجة ظرف طارئ، وإنما سياسة ممنهجة تهدف إلى إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني عبر الجوع، وإعادة تشكيل نسيج الحياة اليومية كساحة صراع. هذا المشهد يكشف ديناميات سيطرة تتجاوز حدود الحصار المباشر إلى محاولة فرض واقع سياسي جديد، حيث يصبح الغذاء والدواء أخطر من الرصاص، والجوع أكثر إيلاماً من أي سلاح تقليدي.