في قلب المأساة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة، يبرز مشهد التجويع كواحد من أكثر الأسلحة قسوة في هذه الحرب المستمرة ، لم يعد نقص الغذاء حالة طارئة أو نتيجة عفوية للصراع، وإنما تحول إلى سياسة ممنهجة تستهدف السكان المدنيين بصورة مباشرة
هذا ما تؤكده التحذيرات الأخيرة لرئيس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، فيليب لازاريني، الذي أشار إلى أن عدد الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في مدينة غزة ارتفع ستة أضعاف منذ مارس الماضي وفي كلماته القاسية أمام الصحافة بجنيف، قال إن الكثير من هؤلاء الأطفال لن يتمكنوا من النجاة، واصفاً ما يجري بأنه مجاعة مصطنعة متعمدة جرى فيها استخدام الطعام كسلاح حرب.
الأرقام التي يقدمها مرصد الجوع العالمي تضع الأزمة في إطار أكثر قتامة، إذ تقدر أن نحو نصف مليون شخص في قطاع غزة يعيشون على حافة المجاعة ورغم ذلك، تنفي إسرائيل عبر وحدة تنسيق المساعدات العسكرية "كوغات" تقييد الإمدادات، وتقول إنها تعمل على ضمان وصولها إلى المدنيين لكن الواقع الميداني يظهر أن هذه المساعدات محدودة للغاية، وأن العقبات التي تواجهها القوافل الإنسانية تجعلها غير قادرة على تلبية أبسط الاحتياجات.
تتجاوز دلالات هذه السياسة الجانب الإنساني المباشر لتصبح جزءاً من استراتيجية عسكرية أشمل فالتجويع يمثل وسيلة لإضعاف النسيج الاجتماعي داخل غزة، وإنهاك قدرة السكان على الصمود أمام العمليات العسكرية المتكررة استخدام الغذاء كأداة ضغط يهدف إلى إنهاك المدنيين ودفعهم إلى النزوح أو الاستسلام تحت وطأة الجوع والمرض ، إلا أن هذه الاستراتيجية تحمل تداعيات عكسية على المستويين الإقليمي والدولي.
فعلى المستوى الإقليمي، يهدد استمرار حرمان سكان غزة من الغذاء بخلق موجات نزوح جديدة نحو الدول المجاورة، وعلى رأسها مصر والأردن هذه الدول تواجه بالفعل تحديات اقتصادية وأمنية معقدة، وأي تدفق إضافي للاجئين قد يفاقم من أزماتها الداخلية، كما أن تداعيات التجويع تمتد إلى تفاقم الأمراض المرتبطة بسوء التغذية مثل فقر الدم وضعف المناعة وانتشار الأوبئة، وهو ما ينذر بكارثة صحية تتجاوز حدود القطاع.
أما دولياً، فإن هذا النهج يعزز الاتهامات الموجهة لإسرائيل بارتكاب انتهاكات ممنهجة ضد المدنيين، ويضع النظام الدولي أمام اختبار صعب عجز المجتمع الدولي عن فرض ممرات إنسانية آمنة يكشف ضعف آليات الأمم المتحدة ويقوض مصداقية مؤسساتها، خصوصاً مع تصاعد الدعوات الحقوقية التي تصف ما يجري بأنه جريمة حرب مكتملة الأركان.
المشهد في غزة اليوم يعكس تحولا خطيرا في طبيعة الحروب الحديثة، حيث لم تعد أدوات القتال تقتصر على السلاح التقليدي، وإنما امتدت إلى الغذاء والدواء. ما يحدث لا يقتصر على معركة عسكرية، وإنما يدخل في إطار حرب شاملة تستهدف تفكيك القدرة المجتمعية على الصمود، الاستخدام الممنهج للتجويع يمثل تصعيداً في مستوى العنف، ويعيد إلى الأذهان تجارب تاريخية ارتبطت بممارسات الإبادة الجماعية.
تظهر معالم سياسة التجويع كجزء من معركة طويلة الأمد، هدفها إعادة صياغة الواقع الديمغرافي والسياسي في غزة عبر إنهاك السكان وحرمانهم من مقومات الحياة الأساسية إن استمرار هذه الممارسات يرسخ صورة قاتمة عن مستقبل القطاع، ويضع الإنسانية جمعاء أمام مسؤولية تاريخية في مواجهة واحدة من أكثر جرائم العصر وضوحاً.