لم يكن مشهد مجموعة من المستوطنين وهم يعبرون حدود الجولان المحتل نحو الأراضي السورية صباح 18 آب/أغسطس مجرّد حادثة فردية عابرة، كما حاول جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يقدّمها في روايته الرسمية. فما جرى عند أطراف "ألون هبشان" كان تعبيراً عن مسار أعمق يتجاوز فكرة المغامرة الشخصية، نحو مشروع استيطاني منظم يلبس لبوس الروايات "الإنسانية" والأمنية بينما يهدف عملياً إلى فرض واقع سياسي وجغرافي جديد في جنوبي سوريا.
حادثة 18 آب: اختبار على الأرض
وفق إعلان الجيش الإسرائيلي، أُحبطت محاولة عدة عائلات مستوطنة إقامة بؤرة جديدة داخل الأراضي السورية، بعد عبورهم السياج الحدودي. وسارعت قوات الفرقة 210 إلى إعادتهم وفتح تحقيق معهم. لكن مجرد رفعهم لافتة تحمل اسم "نفيه هبشان" وزراعة أشجار بشكل رمزي يكشف أن ما جرى لم يكن صدفة، بل تجربة أولى لإيجاد موطئ قدم جديد.
المنظمون قدّموا أنفسهم باسم "روّاد الباشان"، وادعوا أنها مبادرة خاصة، إلا أن ما تكشفه حساباتهم ومجموعاتهم الرقمية يشي بعكس ذلك: حركة ناشئة، لكنها ذات رؤية واضحة، تسعى لترجمة سردية توراتية إلى خطوات عملية فوق الأرض السورية.
"الباشان".. أرض توراتية أم مشروع استيطان؟
تستند هذه الحركة إلى مفهوم توراتي قديم يعتبر أن "أرض الباشان" – أي الجولان السوري ومحيطه – جزء من "أرض إسرائيل التاريخية". سقوط النظام السوري، بحسب زعمهم، وفّر "فرصة تاريخية" للعودة إليها. ومن هنا ترفع الحركة شعار "استعادة الباشان" لتبرير إنشاء مستوطنات دائمة داخل سوريا.
هذه الفكرة ليست معزولة، بل تلقى دعماً ضمنيّاً من تيارات يمينية في الكنيست، حيث التقى ممثلون عن الحركة بشخصيات مثل نيسيم فاتوري (الليكود) وليمور سون هار-ميليك وتسفي سوكوت (عوتسما يهوديت)، مطالبين بدعم رسمي لمشروعهم.
مجموعات الواتساب: خريطة مشروع خفي
داخل مجموعة واتساب مفتوحة باسم "روّاد الباشان"، يتبادل الأعضاء خرائط للجنوب السوري، يناقشون "الفراغات السكانية"، ويقترحون مواقع لإقامة بؤر جديدة. بعض الرسائل تكشف التفكير الاستراتيجي للحركة:
• التأكيد على أن "الوجود الميداني للجيش الإسرائيلي داخل سوريا أصبح واقعاً".
• استغلال قوافل المساعدات التي يرسلها الجيش للقرى الدرزية كدليل على "تقارب محلي" مع إسرائيل.
• الدعوة إلى الضغط على وزراء مثل رون ديرمر لدعم "ممر إنساني" يربط إسرائيل بمحافظة السويداء، ليس لغايات إنسانية بحتة، بل كبوابة لشرعنة وجود استيطاني دائم.
النقاشات لم تتوقف عند الخرائط أو "الفراغات السكانية"، بل ذهبت إلى حدّ البحث في كيفية "تجنيد السكان الدروز" ليكونوا واجهة محلية لتبرير الضمّ، عبر خطاب يوحي بأن "الأغلبية تطلب الانضمام إلى إسرائيل".
الممر الإنساني.. غطاء للاستيطان
تتكرر في نقاشات الحركة فكرة "الممر الإنساني" نحو السويداء. لكنها لا تُطرح كاستجابة لمعاناة إنسانية فعلية، بل كمدخل لإرساء وجود عسكري ومدني إسرائيلي داخل العمق السوري.
أحد قادة الحركة، عاموس عزريا، قال صراحة في مقابلة عبرية: "السيطرة على الأرض هي وحدها التي ستنقذ إسرائيل". هذا الخطاب يوضح أن "الممر الإنساني" ليس سوى وسيلة للانتقال من مبادرات رمزية إلى مشروع ضمّ واسع النطاق.
نحو ضمّ كامل: من التجريب إلى التخطيط
النقاشات الداخلية تكشف أن الخطوات الأولى – كعبور الحدود وزراعة الأشجار – لم تكن سوى "تجربة" لاختبار ردود الفعل. الرسائل اللاحقة أصبحت أكثر وضوحاً:
• الدعوة لطرد السكان السنّة من المنطقة باعتبارهم "تهديداً".
• تقديم الدروز كغطاء محلي لإضفاء شرعية.
• استحضار النموذج الألماني في الوحدة بين الشرق والغرب كمثال على "تطبيق القانون الإسرائيلي" في الأراضي السورية.
وبينما يصرّ بعض الأعضاء على ضرورة تجنيد الدعم الحكومي، يرى آخرون أن الاستيطان يمكن أن يبدأ فعلياً من دون قرار رسمي، على أن يُفرض كأمر واقع لاحقاً.
البُعد العقائدي: من "نوى" إلى "درعا"
الحركة لا تكتفي بالطرح السياسي، بل تغذّيه بخطاب توراتي يربط بين مدن سورية مثل نوى ودرعا وبين أسماء يهودية قديمة (Edrei). الهدف من ذلك إضفاء "شرعية دينية" على المشروع، وتحويله من مبادرة سياسية إلى "واجب توراتي".
بل إن بعض الرسائل تذهب أبعد من ذلك، مؤكدة أن الهدف النهائي هو ترسيخ السيادة الإسرائيلية "من النيل إلى الفرات"، وأن الباشان ليس سوى خطوة في طريق أطول.
البعد الإقليمي: تكرار سيناريو لبنان
اللافت أن حركة "روّاد الباشان" ليست وحدها في هذا المسار. فهناك حركات مشابهة مثل "أوري تسافون" التي نشأت إبان الحرب مع حزب الله وتدعو إلى الاستيطان في جنوب لبنان. كلا الحركتين تلتقيان على فكرة التوسع شمالاً، تحت ذرائع أمنية أو إنسانية، لكنها تخفي مشروعاً أوسع يقوم على الضمّ وتغيير الهوية الديموغرافية.
الخلاصة: مشروع منظم لا مبادرة فردية
من خلال تتبّع ما جرى في 18 آب وما تكشفه النقاشات الداخلية، يمكن القول إن ما يحدث ليس مبادرات فردية معزولة، بل خطة مدروسة تتكئ على:
1. سردية توراتية تقدّم الجنوب السوري كأرض "موروثة".
2. خطاب إنساني/أمني يستخدم الممر الإنساني كغطاء.
3. تنظيم رقمي عبر مجموعات الواتساب والخرائط الميدانية.
4. ضغط سياسي على الحكومة وأعضاء الكنيست.
5. خطاب تعبوي يستهدف الرأي العام الإسرائيلي ويستحضر رموزاً دينية وتاريخية.
بهذا المعنى، فإن حادثة 18 آب ليست سوى بداية. وإذا ما تُركت هذه الحركات تنمو بعيداً عن الرقابة، فإن الجنوب السوري قد يتحول إلى ساحة استيطان جديدة، على غرار ما جرى في الضفة الغربية، مع فارق أن الغطاء هذه المرة ليس "الأمن" وحده، بل "الإنسانية" أيضاً.
إن ما يحدث في الباشان اليوم لا يمكن فصله عن مشروع إقليمي أوسع يهدف إلى تغيير الخرائط، وفرض الضمّ عبر خطوات متدرجة تبدأ بمبادرات صغيرة، وتنتهي بخطط رسمية تسعى لابتلاع أراضٍ عربية تحت شعارات زائفة.
المصدر: وكالة أنباء آسيا + تلفزيون سوريا